تجربة المظليات في سوريا

2024.10.07 | 06:02 دمشق

سرايا الدفاع
+A
حجم الخط
-A

منذ أيام مرّت ذكرى حادثة هزّت وجدان السوريين وما يزال تذكرها يفعل، وهي قيام عدد من المتدربات في دورة القفز المظلي بنزع الحجاب عن رؤوس بعض النسوة في شوارع دمشق، قبل مسارعة حافظ الأسد إلى تطويق الوضع بإصدار أوامره إلى المظليات، ومَن معهن من المنتسبين إلى "سرايا الدفاع"، بالكف عن ذلك والانسحاب إلى معسكرهن، بوصفه قائداً للجيش والقوات المسلحة بسلطات تفوق، رسمياً، صلاحيات شقيقه رفعت، قائد "السرايا" والمشرف على دورات القفز المظلي، وهو مَن أمر متدرباته بتلك الخطوة الخرقاء.

وفي ثنائية "الرئيس" و"القائد" التي مهّدت إلى صراع الأخوين، نشأت ظاهرة المظليين/ات في كنف الثاني مدفوعة بعدد من الظروف، فمن جهة أولى كانت السلطة تخوض صراعاً دامياً مع الإسلاميين، منذ أواخر السبعينيات، حشدت فيه الأمن والجيش وعسكرت أجنحتها المدنية فسلّحت قوات بعثية وأنشأت فصائل نقابية مسلحة؛ عمالية وشبيبية، لتسهم في معركتها التي بدت حرب وجود، ومن جهة أخرى كان رفعت يتغوّل، يوماً بعد يوم، في مؤسسات الدولة والحزب والمنظمات الشعبية عبر أذرع متعددة.

وكان قد وصل إلى التحكم ببعض مفاصل "اتحاد شبيبة الثورة"؛ المنظمة المختصة بشؤون طلاب المدارس الإعدادية والثانوية، عبر مدخلين: أولهما سيطرته الفعلية على مكتب الشبيبة والرياضة القطري في القيادة القطرية لحزب البعث الذي لم يفقد أهميته بعد، وثانيهما ازدواجية ولاء بعض مسؤولي هذا الاتحاد بين مهامهم الظاهرة وبين انتسابهم، غير الخفي، إلى "رابطة خريجي الدراسات العليا"، التي كانت مؤسسة رفعت لتنظيم الموالين له من الأكاديميين والجامعيين.

وبالتقاء رغبة "أبي دريد" في تكوين ذراع شبابي مسلّح يُضاف إلى أوراقه المتكاثرة في الشأن الداخلي، مع حاجة النظام إلى تدريب أعلى لفصائله الشبيبية لتؤدي بفعالية مهمات الحراسة والمؤازرة؛ نظّم رفعت دورة القفز المظلي العسكري الحر الأولى بالتعاون بين "اتحاد شبيبة الثورة" وبين قواته الخاصة؛ "الوحدة 569" الشهيرة باسم "سرايا الدفاع".

دورة القفز المظلي - سرايا الدفاع

أُطلق على هذه الدورة اسم "الأسد"، من دون تحديد أي منهما، وقد حضر الاثنان حفل تخريجها في 1 تشرين الأول عام 1980، مما أدى إلى اعتماد هذا التاريخ عيداً للشبيبة، ولأنّها كانت تجربة أولى لم تضم أكثر من 342 "رفيقاً"؛ 76 من الإناث و266 من الذكور الذين تقدمهم الابنان الأكبران للأسدين؛ باسل الذي حاز لقب بطل الدورة، ومضر بن رفعت.

وقد دفع هذا النجاح قائد "السرايا"، المتعجل دوماً، إلى تنظيم دورة أخرى بدأت خلال أيام، بعد أن "شجّع" عدداً من كبار المسؤولين في الحكومة والحزب والجيش على إرسال أبنائهم، وبناتهم، إليها ليكونوا حافزاً وقدوة لباقي فئات الشعب.

وبالفعل قفز عدد منتسبي هذه الدورة إلى 1920؛ منهم 750 من الإناث والباقي من الذكور الذين تصدرهم الولدان الثانيان للأسدين اللذين حضرا حفل التخريج معاً؛ بشار الذي ألقى كلمة الدورة، ودريد بن رفعت.

وقد أخذت الدورة اسمها من إحدى متدرباتها (ألماظة خليل)، وهي ابنة عائلة فقيرة من قرية علوية في ريف حمص، لقيت مصرعها بالخطأ في أثناء القفز، وهي في السادسة عشرة من العمر، إذ تراوحت أعمار المشاركين بين 13 و17 عاماً.

بشار الأسد

في صيف عام 1981 التالي بدأت الدورة الثالثة والأشهر، وعُرفت باسم دورة "البعث"، وشهدت قفزة في الأعداد فضمت 8480 منتسباً بينهم 2100 من الإناث، وكانت أبرزهن لمى بنت رفعت التي ألقت كلمة الدورة، في حفل تخرجها في 1 تشرين الأول، وأثارت إعجاب أبيها وعمّها الذي ألقى كلمة حاول فيها تهدئة ما كانت قد فعلته المنتسبات، قبل يومين، من نزع الحجاب.

لمى رفعت الأسد

وتأخرت الدورة الرابعة والأخيرة، حتى العام 1983، فتخرجت في تاريخ 1 تشرين الأول نفسه بحضور الأسدين، وبعد أن نفّذ منتسبوها العشرة آلاف بياناً عملياً بالذخيرة الحية وإنزالاً مظلياً وعرضاً عسكرياً، كما استقرت مراسم تخريج الدورات السابقة.

قُدّر لهذه المسيرة أن تنقطع عندما أطاح حافظ بشقيقه ونفاه إلى خارج البلاد، وشرع في تفكيك هياكله وقواته، اعتباراً من العام 1984، وبعد أن نُزعت مخالب "الوحدة 569"، جرى الإيعاز لها بتنظيم دورة مظليين خامسة وخارج السياق، ضمت عشرة آلاف من الطامحين إلى الاستفادة من الميزات التي تمنحها هذه الدورة لحاملي شهادة إتمامها؛ وخاصة الحصول على علامات استثنائية إضافية عند دخول الجامعة، والترقي في السلك الوظيفي بعدها.

شهادة مظلي

في أثناء الدورة الرابعة، التي حملت اسم "دورة تشرين"، أمر "القائد" بدعوة المظليات، اللواتي كان يحرص على تدريبهن تحت عينه في مقره بثكنة القابون، إلى اجتماع، وألقى فيهن كلمة خلت من أي إشارة إلى شقيقه الرئيس، ناسباً الفضل إلى نفسه في فكرة تدريب الإناث في الدورات، واضعاً هذه الخطوة في سياق أوسع من الانتفاض على الموروثات، واتباع نهج "الممارسة الثورية" لا طرق الإصلاح التقليدية، منبهاً إلى أنهن يقمن بخطوة نوعية سيسجلها التاريخ من "ثورة الإنسان العربي".

ورغم أن رفعت، الذي بدا راديكالياً وعامياً وفقير المفردات، قال إنّ المرأة نصف المجتمع الذي يجب ألا يبقى مشلولاً، فإن اعتناءه الخاص بالمظليات أوحى أنه يرى، في هذا السياق، أن الرجل هو نصف المجتمع، فإذا كان المأمول من اليافعين أن يحملوا السلاح ضد الرجعية والصهيونية والإمبريالية وكل أعداء النظام؛ فقد أناطت دورات القفز المظلي بمنتسباتها مهمات أوسع في بناء "المجتمع العربي الاشتراكي الموحد".

ففي الديباجة النظرية التي وضعها "اتحاد شبيبة الثورة" لتمجيد المشروع، جاء أن القفز المظلي حقق إنجازاً هاماً في "إعادة صياغة البنية الاجتماعية العامة"، وأن مشاركة اليافعات أدت إلى نتيجتين: "التحرر الذاتي من الفكر الرجعي وموروثاته"، ثم إلى توظيف هذا التحرر الذاتي في عملية التحرر العام.

حافظ ورفعت

ولهذا لم تكن حادثة نزع الحجاب سلوكاً من خارج إطار البنية الأيديولوجية "التقدمية" لهذه الدورات، ولا تصرفاً فردياً كما برّر حافظ الأسد على التلفزيون الرسمي.

فعندما ألقى كلمته في حفل تخرج "دورة البعث" أبدى عتباً رخواً، قائلاً: إنه يتحدث "حديث الأب لأبنائه وبناته"، متفهماً تطلعات هذا الجيل، وخاصة "الرفيقات" اللاتي يرين في بعض الظواهر دلائل على ماض مظلم عانت فيه المرأة واستُعبدت وسُلخت عن إنسانيتها، مؤكداً على "أننا يجب أن نناضل جميعاً للتخلص من كل براثن الماضي التي أعاقت حركة النمو بمختلف وجوهه لدى إنساننا في هذا القطر، ولدى إنساننا العربي".

لكنه يقول إنه تأثر، عندما سمع بالحادثة، لأنّ النسوة المستهدفات كن "من المتقدمات في السن"، موجهاً أنظار جمهوره المتطلع إلى التغيير إلى تركيز جهوده على الفتيات الطالبات في المدارس، فهذا هو الجيل الذي نحن بصدده.. وأنتم، كما قال "الأسد" الهادئ لأشباله: "مسؤولون عن القسط الأساسي من عملية بناء هذا الجيل"، وذلك "بالتعاون مع إدارات المدارس، وبالتعاون مع المعلمين، وبالتعاون مع المنظمات الحزبية في المدرسة"، فاتحاً بذلك الباب أمام سنوات قادمة من منع ارتداء الحجاب في المدارس.