كيف تلاعب نظام الأسد بمساعدات الأمم المتحدة؟

2024.10.14 | 05:57 دمشق

سوريا وفخ الحياد
+A
حجم الخط
-A

كارستن فيلاند صحافي وباحث ودبلوماسي ألماني، عمل في الشأن السوري لأكثر من عشرين عاماً، أمضى سنوات منها في فريق ثلاثة مبعوثين خاصين للأمم المتحدة إلى سوريا؛ هم الأخضر الإبراهيمي وستيفان ديمستورا وغير بيدرسون.

سبق له أن ألّف عنها كتابَي "سورية الاقتراع أم الرصاص؟" و"عقد الفرص الضائعة"، وأخيراً صدرت الطبعة العربية لكتابه "سوريا وفخ الحياد: معضلات إيصال المساعدات الإنسانية عبر الأنظمة العنيفة" عن دار موزاييك بإسطنبول بترجمة عمار الشيخ.

سوريا وفخ الحياد

يقول فيلاند إنّ كتابه هذا مساهمة في نقاش مستمر بين القانوني والسياسي بالاستناد إلى المثال السوري الذي أظهر عجزاً هيكلياً في كيفية عمل النظام الدولي، فسوريا، في رأيه، واحدة من أصعب السياقات في العالم لتقديم المساعدات الإنسانية المبدئية للأشخاص الأكثر احتياجاً من دون الخضوع للمصالح السياسية لأحد الأطراف.

وفي شرح عنوان الكتاب يقول فيلاند إن "فخ الحياد الإنساني" يعني أنه قد تكون لدى صنّاع القرار في الحكومات المانحة نوايا حسنة عند تمويل المساعدات الإنسانية، وعندما يصرّون على حماية هذا القرار من السياقات والمداولات السياسية؛ ولكن إذا انتهى الأمر بهذه المساعدة الإنسانية إلى إساءة استخدامها وتحولت إلى سلاح سياسي واقتصادي تستعمله حكومة ضد شعبها فإن ضرر حسن النية هذا قد يكون أكثر من نفعه.

وفي سوريا هناك نظام يمنع وصول المساعدات، كوسيلة للحرب. لذلك لم يكن مهتماً بالمساعدة في تعزيز القدرة على الصمود في المناطق التي كان يقصفها، ولذلك أعاق التسليم عبر الخطوط من خلال "مضايقات بيروقراطية إبداعية".

وبعد أن أصبح التمويل الإنساني بديلاً أخلاقياً للحكومات المانحة في مواجهة الفشل في وضع حد للعنف وللمعاناة الإنسانية من خلال السبل الدبلوماسية والسياسية، أو حتى الجمع بينها وبين الأدوات العسكرية؛ صار من الممارسات الدولية التي نمت تدريجياً أن يتم توجيه المساعدة الإنسانية من خلال التعاون الحكومي وبموافقة الحكومة، رغم أن السبب الرئيسي للمعاناة الإنسانية ومصدر التدمير العشوائي هو الغارات الجوية التي أمرت بها الحكومة.

وقد مارس النظام ذلك في إطار ما يسميه المؤلف "الحرب التكاملية"، وهي استراتيجية حرب تستغل، بشكل منهجي وبلا ضمير، جميع الموارد الدولية المتاحة من مختلف القطاعات، بما في ذلك القطاع الإنساني، لاستخدامها أو إساءة استخدامها بتوجيه المساعدات الإنسانية لصالحها بهدف تخفيف العبء الاقتصادي وتقليل مسؤولياتها تجاه سكانها، ودعم العمليات العسكرية بالموارد المتبقية للدولة..

تميل الدول الاستبدادية إلى النظر إلى المنظمات الدولية غير الحكومية، وإلى الأمم المتحدة نفسها، على أنها تهديد، خاصة عندما تأتي مصحوبة بخطاب القيم العالمية والحق في الحماية، ولذلك، من بين أسباب جيوسياسية أخرى، كان لدى روسيا دافع إضافي لمشاركتها السياسية والعسكرية في سوريا، هو منع ترسيخ مبدأ التدخل الإنساني في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة. مما يحجب أي اهتمام بسلوك الدولة تجاه مواطنيها.

وقد استفاد النظام السوري وداعموه مما جاء في قرار الأمم المتحدة بتأسيس "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا) من مادة: "يجب الاحترام الكامل لسيادة الدول وسلامتها الإقليمية ووحدتها الوطنية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. وفي هذا السياق ينبغي تقديم المساعدة الإنسانية بموافقة الدولة المتضررة، ومن حيث المبدأ على أساس نداء منها".

وقد مارس النظام ذلك في إطار ما يسميه المؤلف "الحرب التكاملية"، وهي استراتيجية حرب تستغل، بشكل منهجي وبلا ضمير، جميع الموارد الدولية المتاحة من مختلف القطاعات، بما في ذلك القطاع الإنساني، لاستخدامها أو إساءة استخدامها بتوجيه المساعدات الإنسانية لصالحها بهدف تخفيف العبء الاقتصادي وتقليل مسؤولياتها تجاه سكانها، ودعم العمليات العسكرية بالموارد المتبقية للدولة.

وبما أن معظم المساعدات الإنسانية كانت تمر عبر دمشق ثم تصل إلى مناطق سيطرة المعارضة عبر خطوط التماس؛ استخدم النظام المخاطر الأمنية كوسيلة للتلاعب في إيصال المساعدات، فتعمدت قواته القصف عند محاولة المنظمات الدولية إدخال المساعدات إلى تلك المناطق.

وكثيراً ما رفضت الحكومة، أو قيّدت، مرور العاملين في المجال الإنساني أو حجبت عنهم تأشيرات الدخول، كما أدت البيروقراطية إلى تأخير التراخيص.

ومن الممارسات الشائعة أن جيش النظام، أو ميليشياته، منعوا دخول بذور الخضراوات وحليب الأطفال والأدوات الجراحية والأنسولين ومعدات غسيل الكلى من قوافل المساعدات المتوجهة إلى المناطق المحاصرة، كما أُلزمت المنظمات الدولية بالشراء من التجار السوريين، ولم يُسمح إلا باستيراد 10% من البضائع الموزعة على الأراضي الخاضعة لها، وكنتيجة لذلك حصل رجال الأعمال الذين دعموا النظام على عقود السلع الإنسانية.

وكان ضرورياً التنسيق مع جهتين أساسيتين؛ "الأمانة السورية للتنمية" التي تديرها أسماء الأخرس زوجة بشار الأسد، ومنظمة "الهلال الأحمر العربي السوري"، الواقع بين الحكومة والجهات الدولية الفاعلة، والذي أصبح ضحية ومتعاوناً في نظام الترهيب والفساد، في حين عملت غالبية موظفيه الميدانيين بجد للوصول إلى المحتاجين.

كان رجل الأعمال عبد الرحمن العطار رئيساً لمنظمة "الهلال الأحمر العربي السوري" لعدة سنوات بعد الثورة، وكان هناك دوماً انقسام في الحكم عليه؛ فينتقده بعضهم بسبب صلاته الواضحة بالنظام في حين يرى آخرون أنه كان متردداً جداً في الذهاب إلى الحد الذي أراده النظام منه.. وبحلول منتصف عام 2013 كانت فرق "الهلال..." بحاجة إلى إذن لدخول المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ونادراً ما كانت الحكومة تمنحها الموافقة.

جاءت الانتفاضة السورية في توقيت سيئ، فأجزاء كثيرة من العالم شهدت تراجعاً في الديمقراطية وصعوداً للشعبوية، وبعد هجمات 11 أيلول 2001، وردة فعل الإدارة الأميركية؛ نشأ اتجاه لمنح الدول مساحة أكبر في جهودها لمواجهة التهديدات الأمنية التي توصف بأنها "إرهابية"..

فعلى الرغم من عدم شرعيته ووحشيته؛ ما زال النظام يتمتع باعتراف دولي قانوني، وسياسي إلى حد كبير، وعضوية في الأمم المتحدة، لكن استخدام التجويع كإحدى وسائل الحرب انتهك بشكل صارخ التزام الدولة بتقديم المساعدات الإنسانية لجميع السكان من دون تمييز.

ولذلك أصبحت عمليات تسليم المساعدات عبر الحدود ممكنة سياسياً وقانونياً لعمليات الأمم المتحدة من دون إذن دمشق في عام 2014، لكن هذا القرار توقف في كانون الثاني 2020 عندما منعت روسيا والصين تمديده باستخدام الفيتو في مجلس الأمن، مع تقليص مدة ونطاق قرارات المتابعة التي تم التوصل إليها بعد ذلك.

لقد جاءت الانتفاضة السورية في توقيت سيئ، فأجزاء كثيرة من العالم شهدت تراجعاً في الديمقراطية وصعوداً للشعبوية.. وبعد هجمات 11 أيلول 2001، وردة فعل الإدارة الأميركية؛ نشأ اتجاه لمنح الدول مساحة أكبر في جهودها لمواجهة التهديدات الأمنية التي توصف بأنها "إرهابية"، ولتخفيف القيود المفروضة على تصرفات الدول بموجب القانون الدولي.

ومن خلال تبني سردية "الإرهاب"، حتى عندما كان الوضع الداخلي ما زال يشهد احتجاجات شعبية من دون أي صبغة متشددة أو طائفية سائدة؛ حاول النظام السوري التنصل من الالتزامات القانونية التي كانت قد تدخل حيز التنفيذ لو اعترف بوجود نزاع مسلح غير دولي على أراضيه.

ففي تلك الحالة كان يجب عليه أن يعترف بالجماعات المتمردة الناشئة طرفاً في الصراع منذ البداية، وعندئذ يتم منحها وضعية قانونية وشرعية وتطبيقاً للقانون الدولي يشابه ما يجري في النزاع المسلح الدولي.

يعمل الدبلوماسيون الإنسانيون في المناطق الرمادية المؤلمة لواقع غير مثالي، وقد واجهت الأمم المتحدة معضلة إنسانية؛ فهل كان عليها أن تعمل في ومن المناطق التي تسيطر عليها الحكومة فقط أم لا تعمل على الإطلاق؟ وهل كان بوسعها أن تكون أكثر حزماً؟ لم يتم اختبار ردة فعل النظام السوري لو هددت المنظمة بالانسحاب من البلد. وكانت دمشق تدرك تماماً قيمة وجود الأمم المتحدة؛ سواء من جهة الاعتراف الدولي أو بسبب الفوائد العملية للمساعدات. وكان يمكن أن تخفف شروطها في مفاوضات صارمة.

تضررت سمعة الأمم المتحدة بشكل كبير في الحالة السورية، وكنتيجة منطقية لسلوك الدولة المعرقل فإن شرط موافقتها على تسليم المساعدات الإنسانية صار موضع تساؤل بين فقهاء القانون الدولي الإنساني..

إن الالتزام بالمبادئ التقليدية للحياد واحترام السيدة الوطنية ربما أدى إلى تواطؤ الأمم المتحدة مع الشر، كما أبدى عدد من كبار موظفيها في دمشق تماهياً غير ضروري مع النظام، وكان بين الموظفين المحليين العاملين لدى وكالاتها هناك أقارب مسؤولين كبار وأفراد معروفون بعلاقاتهم بالمخابرات. وتعاونت مع شركات ومنظمات مشبوهة من بينها ما كان يديره رجل الأعمال رامي مخلوف، ومؤسسة "الشهيد" التي يملكها مؤسس قوات "الدفاع الوطني" في حمص.

تضررت سمعة الأمم المتحدة بشكل كبير في الحالة السورية، وكنتيجة منطقية لسلوك الدولة المعرقل فإن شرط موافقتها على تسليم المساعدات الإنسانية صار موضع تساؤل بين فقهاء القانون الدولي الإنساني، ولا سيما أصحاب "التفسيرات التقدمية" له.

وقد علمتنا التجربة السورية أن ضعف المفاوضين الإنسانيين في مواجهة القيود الخانقة لعملهم هو جزء آخر من المشكلة.