يعدّ المجتمع السوري مجتمعاً حيّاً ونشطاً سياساً، إذ لم تكن الحياة السياسية خاملة في أثناء الاحتلال الفرنسي وما بعده، كذلك عرفت المجتمعات السياسية السورية أنماطاً مختلفة من معارضة حكم الاستبداد في فترة حكم عائلة الأسد للبلاد، لكن المرحلة اتسمت بمعاناة المعارضة السياسية الداخلية من القمع والتهميش، وسادت فترة عصيبة تخللتها الاعتقالات وسجن العديد من النشطاء والسياسيين.
بقي الفضاء السياسي مقيداً في فترة التسعينيات على الرغم من إطلاق سراح بعض المعتقلين إلا أن القيود على الحريات السياسية بقيت مشددة، وساد جو من الرعب الأهلي بين السوريين وبدؤوا بتجنب العمل السياسي بل وتجنب الأحاديث السياسية التي قد تسبب ضرراً أكثر من فائدتها.
شهدت بداية حكم الأسد الابن بعض الآمال في الإصلاح، وعرفت الفترة الأولى من حكمه بـ"ربيع دمشق" (2000-2001)، كونه سمح ببعض الانفتاح السياسي والنقاشات العامة حول الإصلاح، لكن هذا الانفتاح كان قصير الأمد، فقد تبعتها فترة إغلاق للمنتديات السياسية وسجن الناشطين وعودة القبضة الأمنية.
ضمت المعارضة مجموعات سياسية، إسلامية، قومية، ويسارية. بيد أن القمع الشديد حال دون تشكيل جبهة موحدة قادرة على تحدي النظام بشكل فعال، لتتغير ديناميكيات المعارضة بشكل كبير بعد ثورة عام 2011.
قابل النظام السوري المظاهرات السلمية بقمع شديد، ما أدى إلى تصاعد العنف، وبدأت مؤسسات معارضة جديدة تبدأ بالتشكل فظهرت المجالس المحلية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وهيئات التنسيق محلية التي كانت تدير شؤون هذه المناطق، كذلك تأسس "المجلس الوطني السوري" في أكتوبر/تشرين الأول 2011 ليكون ممثلاً سياسياً للثورة.
تصاعد العنف مع انشقاق أجزاء من الجيش السوري وتشكيل "الجيش السوري الحر" في يوليو/تموز 2011، إذ بدأ الصراع يأخذ طابعاً عسكرياً بشكل أكبر مع تزايد أعداد الفصائل المسلحة المختلفة.
غيّر التدخل العسكري الروسي في عام 2015 موازين القوى على الأرض لصالح النظام.
مع هذه النقطة المفصلية انقسم المجتمع الدولي في دعمه مما زاد التدخل الإقليمي والدولي، واتضحت نظرياً الدول التي تدعم المعارضة وتلك التي تسعى لتثبيت أقدام النظام، وتأسس في هذه المرحلة "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" ليحلّ محل المجلس الوطني السوري ممثلاً للمعارضة في المحافل الدولية.
عاش السوريون في هذه الفترة أزمة اصطفافات وانقسامات داخلية أهم ما كان يميزها إيجاد تعريف موحد لصفات الوطنية ولمفهوم الوطن الذي بدا أنه أمر مختلف عليه لدى السوريين، ففي وقت كانت شريحة من السوريين تطالب بحقوق سياسية، اختصرت فئة أخرى البلاد بالعائلة الحاكمة وأصبح أي مساس بها يعد خيانة.
تعقد الصراع العسكري مع ظهور التنظيمات المتطرفة مثل داعش وجبهة النصرة، وتحول إلى صراع متعدد الأطراف تبعاً للدول التي أصرت على التدخل العسكري بدعوى دحر داعش والتنظيمات المتطرفة.
يبدو أن تلك الفترة كانت تبلوراً لتسرب حلم الثورة من أيدي السوريين وتحول الوضع إلى حرب مصالح وسياسات، وهو الوقت ذاته الذي انقسمت فيه المعارضة داخلياً بسبب خلافات بين الفصائل المختلفة.
غيّر التدخل العسكري الروسي في عام 2015 موازين القوى على الأرض لصالح النظام، وبدأت قوات النظام تستعيد السيطرة على كثير من المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وبدأت مرحلة المفاوضات الدبلوماسية برعاية الأمم المتحدة في جنيف وأستانا لكنها لم تحقق تقدماً ملموساً وبقيت في إطار المراوحة في المكان.
مع عودة سيطرة النظام السوري على الأراضي التي كان قد فقد السيطرة عليها تقلصت سيطرة المعارضة إلى مناطق محدودة في شمال غربي سوريا، وتفاقمت الأوضاع الإنسانية مع تزايد أعداد النازحين واللاجئين، واستمرت المعاناة بسبب الحرب، في وقت لا تزال فيه المعارضة السورية منقسمة وتواجه تحديات كبيرة في تشكيل جبهة موحدة.
اليوم ومع معاناة اللاجئين السوريين من أزمات في بلاد اللجوء والمهجر مثل تركيا ومصر ولبنان والأردن والسودان، يبدو دور مؤسسات المعارضة ضعيفاً وغير مؤثر.
كان من نتائج انقسام المعارضة غياب قرار سوري موحد أو وجود كيان يمكن أن يشكل بديلاً مناسباً عن النظام السوري المنهك لولا الدعم الخارجي، بسبب عقوبات اقتصادية ودبلوماسية تدفعه نحو التفاوض.
وعلى أن المعارضة السورية لم تثبت نجاحها في تغيير نظام الحكم وتحقيق الانتقال الديمقراطي في سوريا، يرى السوريون أنها لم تشكل فرقاً أيضاً في التأثير على الأوضاع الإنسانية للسوريين الذين تضرروا بنتائج الحرب الدائرة من لجوء ونزوح وتشرد وجوع.
من الممكن أن تكون المعارضة قد أثرت على مواقف المنتمين إلى دائرة النظام فقد واجه النظام السوري انشقاقات داخلية في صفوف الجيش والأجهزة الأمنية، وانضم عدد من العسكريين والسياسيين إلى المعارضة، لكن هذه الانشقاقات لم تكن كافية لإسقاط النظام، خاصة بعد الدعم العسكري الجوي والبري من الحليفين الروسي والإيراني.
اليوم ومع معاناة اللاجئين السوريين من أزمات في بلاد اللجوء والمهجر مثل تركيا ومصر ولبنان والأردن والسودان، يبدو دور مؤسسات المعارضة ضعيفاً وغير مؤثر، حتى أن المسارات القانونية التي يتبعها السوريون لإدانة النظام وتوثيق جرائم الحرب، يُعمل عليها بجهود فردية أو جماعية بشكل مستقل، في حين يستفيد السوريون من دول الاتحاد الأوروبي لأنها تمتلك قانوناً ينظم اللجوء وحقوق اللاجئ وواجباته من دون تدخل من مؤسسات المعارضة في ترتيب أوضاعهم.
من الصعب القول إن مؤسسات المعارضة السورية ضاهت مؤسسات النظام في القوة والتمثيل بشكل عام، بينما تمكنت المعارضة من إنشاء كيانات سياسية وعسكرية مثل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والجيش السوري الحر، إلا أن هذه الكيانات غالباً ما عانت من انقسامات داخلية، وغياب الاعتراف الدولي الكامل.
تختلف الشرعية في أرض الواقع عن معناها القانوني فالشرعية الحقيقية لأي حكومة تعتمد على قدرتها على تلبية احتياجات مواطنيها واحترام حقوقهم الأساسية.
في المقابل، احتفظ النظام السوري بقدرة كبيرة على التحكم في مؤسسات الدولة الأساسية مثل الجيش والأمن والإدارة المدنية، بدعم من حلفاء دوليين مثل روسيا وإيران، فمكّنه ذلك من الاحتفاظ بسيطرته على جزء كبير من البلاد واستعادة أراضٍ كانت قد خسرها في وقت سابق.
لكن السؤال الذي يحق للسوريين طرحه اليوم إذا كانت الدول "الاستعمارية" قد حققت مآربها اليوم من تفجير الوضع في سوريا وفي الإقليم بشكل عام، وإذا كان المجتمع الدولي يميل اليوم إلى تلطيف الأجواء مع النظام السوري، فما الجدوى من وجود مؤسسات معارضة مشلولة الأطراف لا تؤثر في مجرى الأحداث السياسية ولا تعمل على تحسين أوضاع اللاجئين في مهجرهم، ولا تحظى بقبول شعبي ولا بشرعية دولية؟
من منظور شريحة كبيرة من السوريين والمراقبين الدوليين، فقد النظام السوري شرعيته داخلياً ودولياً بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في القتل والتعذيب والتهجير القسري، لكن المجتمع الدولي لم يتخلّ عن عائلة الأسد ونظامها بشكل كامل لأسباب كثيرة، كونه ما زال مسيطراً على أجزاء كبيرة من البلاد، بما في ذلك العاصمة دمشق والمدن الرئيسية الأخرى، ما يمنحه القدرة على الاحتفاظ بمؤسسات الدولة وإدارتها، حتى وإن كان بدعم من حلفائه الذين وفروا له الدعم العسكري والدبلوماسي الضروري للبقاء في السلطة، وهو الأمر الذي يمنحه نوعاً من الشرعية الدولية، في مواجهة معارضة تعاني من ضعف التنسيق والعجز عن اتخاذ خطوات مؤثرة.
تختلف الشرعية في أرض الواقع عن معناها القانوني فالشرعية الحقيقية لأي حكومة تعتمد على قدرتها على تلبية احتياجات مواطنيها واحترام حقوقهم الأساسية، وبالنظر إلى الحال التي آلت إليه سوريا اليوم بين داخل وخارج تبدو شرعية النظام السوري موضع شك كبير، لكن المجتمع الدولي يرفض إزاحة عباءة الحماية عنه حتى اللحظة.
لم تنجز مؤسسات المعارضة غايتها السياسية في تغيير نظام الحكم، لكنها انكفأت على نفسها واكتفت بتحقيق غايات شخصية لم يكن لها تحقيقها لولا ثورة السوريين، ومع عدم معرفة الغاية الأساسية حتى الآن من دعم الدول الحليفة لتلك المؤسسات يبقى السؤال مطروحاً ومفتوحاً للأجوبة عن ماهية وجودها وسببه.
ويبدو أن مستقبل السوريين اليوم ضبابياً بين رئيس فاقد للشريعة ومعارضة فشلت في استحقاقها، لكن السوريين قد يعوّلون على عدم وفاء السياسة وسرعة تقلباتها التي قد تبدي لنا ما لم نستطع تبينه من قراءة الأحداث اليوم.