شهدت مدينة دمشق في عام 1904 تشغيل أول مولد كهربائي يعمل بالديزل على يد شركة بلجيكية خاصة، ما أتاح إنارة المسجد الأموي وكذلك أجزاء محدودة من العاصمة. ومع ازدياد الطلب على الكهرباء، قامت الحكومة بتركيب أول توربينات مائية على نهر بردى بين عامي 1905 و1910 بقدرة 4 × 200 كيلو وات، لتكون بذلك دمشق من أوائل مدن الشرق الأوسط اعتماداً على مصدر مائي لتوليد الكهرباء النظيفة والخالية من الانبعاثات.
البداية من ضفاف بردى
وفي غضون عقدين من الزمن، وصلت الكهرباء إلى حلب، اللاذقية، حمص، وحماة، مما أتاح لمعظم المدن الكبرى آنذاك اللحاق بمسار التطور العالمي وجسر الهوة في تطور البنى التحتية مقارنة بالمدن الأوروبية. وخلال العقود التالية، وعلى الرغم من انتشار الكهرباء في المدن الرئيسية، ظل القطاع يعاني من ضعف البنية التحتية وعدم الكفاءة، حيث سيطرت عدة شركات أجنبية وفرنسية تحديدًا على أغلب مشاريع التوليد والتوزيع حتى منتصف القرن العشرين.
كانت سياسة هذه الشركات معاظمة الأرباح مما دفعها للتركيز على التجمعات السكانية الكبرى وإهمال الاستثمار في المناطق النائية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وبعد استقلال البلاد، تبنت الحكومات السورية المتعاقبة سياسات هدفت إلى تأميم هذا القطاع، فجرى دمج الشركات الخاصة تحت إدارة الدولة بحلول عام 1965، وإنشاء "المؤسسة العامة للكهرباء" التي أصبحت الجهة الوحيدة المسؤولة عن توليد وتوزيع الكهرباء.
في تلك الفترة، ركزت الحكومات على كهربة المناطق الريفية، وتمكنت بحلول السبعينيات من إيصال الكهرباء إلى أكثر من 90% من السكان، وهو إنجاز كبير بمقاييس تلك الحقبة.
ومع ذلك، ظل القطاع يعاني من مشكلات هيكلية، حيث كانت خسائر النقل في الشبكة مرتفعة للغاية، وبلغت حوالي 26% من إجمالي الإنتاج بحلول عام 2010. للمقارنة تبلغ هذه الخسائر في ألمانيا 4 بالمئة.
قبل عام 2011، كانت التغطية الكهربائية واسعة النطاق جغرافيا لتغطي حوالي 99 بالمئة من جغرافيا سوريا, ولكنها عانت من الانقطاعات الطويلة، والخسائر المالية المرتفعة لضعف كفاءة التشغيل، والاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري. ورغم أن الموقع الجغرافي لسوريا يمنحها حوالي 3700 ساعة إشعاع شمسي سنويا مقارنة بـ 1800 ساعة في ألمانيا مثلا, إلا أن نسبة المشاركة المحطات الشمسية وعنفات الرياح مجتمعة لم تتجاوز ١ ونصف بالمئة في عام 2020.
إحصائيات توليد واستهلاك الكهرباء في سوريا (1965-2010)
أثر الحرب السورية على البنية التحتية لإنتاج الكهرباء
عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، لم يكن قطاع الكهرباء في أفضل حالاته، لكنه كان لا يزال يسعى لمواكبة الطلب المتزايد بنسبة قاربت الـ 10 بالمئة سنويا بشكل محدود. ومع تحول ديناميات الثورة إلى صراع دام طويل الأمد، تعرضت البنية التحتية للكهرباء لأضرار بالغة نتيجة القصف الروسي والإيراني للبنى التحتية للمناطق التي خرجت عن سيطرة الأسد أو نتيجة للسرقات التي استهدفت الكابلات النحاسية والمعدات التقنية. ألحق النزاع أضرارًا جسيمة بمحطتين من أصل 14 محطة في البلاد، مما يمثل نحو 18% من القدرة المُثبتة قبل الحرب على مستوى البلاد. كما تضررت محطتان أخريان بالقرب من حماة ودمشق، ولكنهما خضعتا لإصلاحات جزئية.
وبحلول عام 2016، تراجعت القدرة الإنتاجية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث انخفض الإنتاج إلى أقل من 20% مما كان عليه قبل الثورة. تفاقم الوضع أكثر بسبب الهجمات المتكررة على خطوط الغاز التي كانت تغذي المحطات، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، وصلت في بعض المناطق إلى 22 ساعة يوميًا.
اليوم، تواجه سوريا أزمة طاقة حادة. في المدن الكبرى مثل دمشق، تتوفر الكهرباء فقط لمدة 2-4 ساعات في فترة 24 ساعة. وقد حُرمت العديد من القرى المحيطة بهذه المدن من الكهرباء بشكل كامل لسنوات. في ديسمبر 2024 عشية سقوط نظام الأسد، قُدّرت القدرة التشغيلية المتاحة ما بين 0.8-1.3 غيغاواط فقط.
تكاليف إعادة بناء قطاع الكهرباء السوري
تدمير قطاع الكهرباء لم يعد مجرد أزمة خدمية للسكان، بل كان له أثر كارثي على الاقتصاد السوري ككل. تشير التقديرات إلى أن الخسائر الاقتصادية المباشرة تتجاوز حوالي 2.4 مليار دولار لإعادة بناء البنية التحتية فقط، بينما تجاوزت الخسائر غير المباشرة، مثل توقف الإنتاج الصناعي وتعطل الخدمات الأساسية، 60 مليار دولار خلال الفترة بين ٢٠١٢ و٢٠٢١ .
وبسبب انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، اعتمدت العديد من الأسر والشركات على المولدات الخاصة التي تعمل بالوقود وتستنزف حوالي ١٠ بالمئة من متوسط الدخول، مما رفع تكاليف المعيشة وأدى إلى تدهور بيئي بسبب الانبعاثات الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري. فالزائر لدمشق هذه الأيام يكاد يشعر بالاختناق من الروائح المنبعثة من المولدات المتفرقة التي تعمل بالديزل لتوليد الكهرباء للمطاعم والمكاتب.
على الرغم من التحديات الهائلة التي يواجهها قطاع الكهرباء في سوريا اليوم، إلا أن هناك فرصًا حقيقية للنهوض بهذا القطاع وإعادة بناءه على أسس صحيحة، خاصة في ظل الإمكانات الكبيرة للطاقة المتجددة في البلاد.
إن إعادة بناء قطاع الكهرباء في سوريا لن تكون مهمة سهلة في ظل استمرار العقوبات الدولية وضعف الاستقرار السياسي. ولكن الجدير بالذكر بإن قطاع الكهرباء تعرض سابقا لأضرار جسيمة خلال حرب أكتوبر 1973، حيث تم تدمير حوالي 80% من المنشآت الكهربائية وتم إعادة بناءه من جديد. كما أن سوريا الجديدة تتمتع اليوم بكفاءات متنوعة ومتميزة مما يجعلها قادرة على النهوض به مجددًا إذا توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية السليمة. فسوريا الجديدة تستحق أن تأخذ مكانها بين الدول الرائدة في قطاع الطاقة مستغلة مواردها الطبيعية الهائلة للطاقة الشمسية والرياح لصناعة مستقبلا مستدام للأجيال القادمة التي نأمل أن نسلمهم البلاد في حال أفضل بكثير من الحال التي نعرفها اليوم.