أوجد دولت بهتشلي زعيم أكبر حزب قومي في تركيا لنفسه مهنة تتمثل بالوقوف ضد أي تنازل في الصراع مع حزب العمال الكردستاني، ومنذ فترة بعيدة بقي هذا الرجل يعتقد بأن الحل الوحيد لنزاع تركيا مع الانفصاليين المسلحين يتمثل بإلحاق هزيمة ساحقة بهم على الأرض. ومنذ عام 2016، عندما صار بهتشلي وحزب الحركة القومية مؤيداً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أصبح بوسعه وضع قناعته في موضع التنفيذ. لذا وفي عهد أردوغان، شنت الحكومة التركية هجمات مسلحة ضد حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا وخارجها، والمصنف على قائمة الإرهاب في تركيا وعدد من الدول.
من العنف إلى السياسة
ولكن في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول، رفع بهتشلي نفسه سقف التوقعات بالتوصل إلى تسوية مع حزب العمال الكردستاني، وهذا ما أثار دهشة معظم أبناء الشعب التركي، وذلك عندما دعا زعيم هذا الحزب عبد الله أوجلان المسجون في تركيا إلى إلقاء كلمة أمام البرلمان التركي ونبذ العنف، إذ في حال قرر هذا الزعيم الكردي تفكيك حزب العمال الكردستاني، فإن فرصة إطلاق سراحه ستصبح قريبة برأي بهتشلي. وبعد مرور يوم على تلك التصريحات، أعلن أوجلان الذي أمضى ربع قرن في سجن بجزيرة نائية، بأنه بات بوسعه: "توجيه العملية من العنف إلى السياسة".
وفي اليوم عينه، ظهر ما ذكرنا بمدى صعوبة تحقيق ذلك في الماضي، إثر قتل مقاتلين من حزب العمال الكردستاني لخمسة أشخاص وتسببهم بجرح أكثر من عشرة آخرين في مقر لشركة دفاع تركية رائدة بالعاصمة التركية أنقرة، وذلك قبل أن يقتل كل منهما، فردت تركيا على ذلك بغارات جوية نفذتها على معاقل الحزب في سوريا والعراق، ليأتي حزب العمال بعد ذلك ويدعي بأن تلك الهجمة لا علاقة لها بمقترحات بهتشلي.
كان بوسع العنف أن يحرف أي عملية سلام عن مسارها قبل أن تبدأ، لكن ذلك لم يحدث، ففي الثلاثين من الشهر نفسه، دعم أردوغان مقترح الحزب المتحالف معه، لكنه استبعد فكرة إجراء محادثات مع قادة آخرين غير أوجلان من حزب العمال الكردستاني. وهنا من الصعب للمرء أن يضمن النجاح، وذلك لأن المحادثات التي جرت قبل ذلك انهارت في عام 2015 وسط تبادل للاتهامات، ما دفع لظهور دورة عنف جديدة حولت أجزاء من جنوب شرقي تركيا إلى ركام قبل أن تمتد لتصل إلى الشمال السوري. فقد اتهم سياسيون كرد أردوغان بالسعي وراء السلطة لا السلام، وبدعم تنظيم الدولة ليجابه المتمردين الكرد، في حين أعلن المسؤولون الأتراك بأن حزب العمال الكرستاني استغل المحادثات لكسب الوقت والتسلح من جديد.
أسفرت هجمات حزب العمال وسياسة الأرض المحروقة التي انتهجها الجيش التركي إلى جانب الاغتيالات التي نفذتها فرق الموت التركية والمتمردون على حد سواء، عن مقتل أكثر من أربعين ألف إنسان منذ بداية النزاع قبل أربعة عقود. بيد أن تركيا أصبحت اليوم أقوى بكثير وأشد منعة، في حين لم يعد هنالك أي وجود لحزب العمال كقوة مقاتلة في جنوب شرقي تركيا، كما أن الاعتقالات الجماعية جعلت أهم حزب كردي في تركيا، وهو حزب المساواة والديمقراطية الشعبية، حزباً مهمشاً على الصعيد السياسي.
إيران هي الدافع المحفز
وهذا ما دفع مراقبين كثر إلى التساؤل عن سبب اختيار الحكومة التركية لهذا التوقيت لإعادة إحياء العملية السياسية مع الكرد، لأن التفسير المرجح لذلك له علاقة بالدمار الذي لحق بإيران وأذرعها على يد إسرائيل خلال العام الفائت. إذ إن تراجع النفوذ الإيراني في سوريا والعراق يهدد بتشجيع الكرد في المنطقة على مواصلتهم للمطالبة بمزيد من الاستقلال الذاتي، بحسب رأي الأكاديمي التركي مسعود يغين الذي يعلق على ذلك بقوله: "ذلك هو السيناريو الذي تريد تركيا أن تمنع وقوعه".
ومن الجدير بالملاحظة هنا أيضاً ذلك التحول المفاجئ الذي أبداه بهتشلي الذي كان يمثل أحد أكبر العوائق التي تعترض طريق المحادثات مع الكرد، والذي أصبح اليوم وسيطاً بين الطرفين. ومن المعروف عن زعيم حزب الحركة القومية التركية بأن له حلفاء كثر ضمن أوساط البيروقراطية الواسعة في تركيا، وخاصة بين قوات الأمن التركية، وهذا ما دفع جينكيز جاندار وهو نائب عن حزب المساواة والديمقراطية الشعبية إلى القول: "يوحي الدور الذي يلعبه بهتشلي بأن ذلك ما هو إلا مشروع خطير من مشاريع الدولة التركية، وبأننا بتنا إما على وشك أن نشهد حدوث تطورات غاية في الأهمية، أو أننا دخلنا مرحلة تطبيقها فعلياً".
المصدر: The Economist