على مر العصور، لاشك أبدا أن الأمن والأمان في المجتمعات الإنسانية هما الركيزة الأهم واللبنة الرئيسية التي تسهم بشكل كبير في استقرار هذه المجتمعات وازدهارها، بل وهما الفيصل الأساسي في نهضة هذه المجتمعات واستقرارها وتقدمها في مجالات الحياة المختلفة السياسية منها والاقتصادية وغيرها. ولاشك أيضا أن الشعور العام للمواطنين بالأمن والأمان وإحساسهم الحقيقي والملموس بعمل الأجهزة المختصة الجاد والحازم على توفيرهما، والارتقاء فيهما سينعكس حتما على سلوكيات الأفراد وانضباطهم، وسيساعد كثيرا على بعث الاستقرار والطمأنينة في نفوسهم، وبالتالي سيشكل هذا الأمر حافزا كبيرا ومثاليا لعملهم وإبداعهم الهادف لتقدم مجتمعاتهم وازدهارها.
عمليا ومن خلال المتابعة فإن الشمال السوري ومنه منطقة درع الفرات التي تخضع عمليا لسيطرة الفصائل والقوات التركية منذ تحريرها من تنظيم داعش وميليشيات قسد والأسد فإنها تشهد ما بين الحين والآخر وبشكل خاص عن المناطق المحررة الأخرى حالة من الفوضى الأمنية والاحتكاكات المسلحة، وتتعرض بشكل دوري لعمليات أمنية كثيرة كفيلة بتهديد الاستقرار النسبي الذي تعيشه هذه المناطق، كالقصف والتفجيرات وعمليات الاغتيال وجرائم القتل والسرقة والاختطاف والاختراقات الأمنية من قبل قوى إرهابية مختلفة، ووجود الخلايا النائمة التابعة لنظام الأسد وميليشيات قسد، ناهيك عن طغيان وبروز وتجذر الحالة الفصائلية التي أدت بشكل واضح إلى التنافس الدموي على الموارد الاقتصادية، والعمل على توسيع دائرة النفوذ على الموارد المالية والمعابر بين المناطق المحررة وباقي مناطق أصحاب النفوذ المختلفة، لابل فإن الفوضى الأمنية وغير الانضباطية العسكرية وصلت حتى إلى داخل البيت الداخلي لبعض الفصائل وذلك على غرار ما حصل مؤخرا في صفوف فرقة المعتصم التي تعد شاء السكان الموجودين في هذه المناطق أم أبوا وبغير حول منهم ولاقوة هي سلطة أمر واقع وأحد أبرز الفصائل العاملة في المنطقة.
في الواقع فإن كل الدراسات الحديثة حول الحالة الأمنية وفوضى ظاهرة انتشار السلاح وسهولة اقتنائه في مناطق الشمال السوري الآن وفي الفترات الماضية، تشير حقيقة إلى أن المشكلة الأمنية هي المشكلة الأبرز التي تعاني منها المناطق المحررة وبالأخص منطقة درع الفرات، ولاشك في أن هذه الفوضى الأمنية تعتبر من أهم المسؤوليات والواجبات والتحدي الأهم والأصعب الذي من واجب وزارة الدفاع والجيش الوطني والفصائل الأخرى المسيطرة والأجهزة الأمنية المختصة إن وجدت _فعلا لا اسماً فقط_ أن تتصدى لهذه المهام وتضعها في صدارة أولوياتها وتحاول وبشكل لا يقبل التقصير على إيجاد الحلول الأمنية الناجعة والأساليب الردعية المناسبة للقضاء على جميع حالات الفوضى واقتلاع جذورها بكل أنواعها ومسمياتها وصولا لتوفير بيئة آمنة مستقرة تضمن لسكان هذه المناطق وعلى الأقل ممارسة نشاطاتهم المتنوعة والعيش في مناطقهم دون خوف وأذىً دائم.
عمليا ومن خلال المتابعة والملاحظة فإن الواقع الميداني والإنساني المعاش في المناطق التابعة لدرع الفرات يوحي للقاصي والداني بأن الجهات الأمنية المختصة في الغالب هي جهات غير مؤهلة أمنيا، وغير اختصاصية بل والأهم من ذلك كله أنها جهات متعددة التبعيات والانتماءات الفصائلية الضيقة، ولا تزال بعيدة كل البعد عن الاستقلالية المؤسساتية في اتخاذ القرارات الصحيحة والمناسبة بوقتها وشكلها الصحيح، وبالتأكيد وكما تشير الكثير من الدلائل والوقائع أن هذه الجهات لاتزال بعيدة كل البعد ولعوامل عدة من الوصول إلى المستوى المطلوب من الخبرة والجاهزية الأمنية، و لاتزال بحاجة ماسة إلى التفهم الحقيقي والواعي لمسؤولياتها الثورية والأخلاقية والاستقلالية والاحترافية كأشخاص ومؤسسات في مفاصل العمل الأمني والاستخباراتي وفروعه المتعددة، ومن ثم التعاطي مع وقائعه المعقدة بالشكل الصحيح والأمثل، وإلا فإن عدم توفر كل هذه الأمور المذكورة وغيابها الميداني سيتمخض عنه غياب القدرة العملية والفعلية على فرض أي شكل من أشكال الأمن واستتبابه، وبالتالي سيكون الطريق ودون أدنى شك ممهدا أمام زيادة التعديات والجرائم المرتكبة وكثرة الانتهاكات والاختراقات الأمنية وتكاليفها الكارثة والدموية وتكرارها بشكل دائم ومستمر.
واقعيا يجب أن يشعر الجانب التركي وأصحاب النفوذ بكل انتماءاتهم الفصائلية في الشمال السوري أكثر بالأهمية البالغة للملف الأمني، وخاصة في ظل وجود الكثير من المتربصين على خطوط التماس المحيطة بالمحرر (عصابات الأسد وميليشيات قسد) والذين بلا أدنى شك يهمهم إبقاء المناطق المحررة بشكل دائم في حالة تضييق وفوضى معيشية وأمنية، والعمل الدائم على استثمار أخطر بأي وضع غير طبيعي حرصا على تنفيذ أهدافهم واستراتيجياتهم، والإيحاء للسكان المحليين بأن الجيش التركي والفصائل بكل مسمياتها غير قادرين فعليا على حمايتهم وتأمين مناطقهم من الأخطار المتنوعة.
بالتحليل فلا شك أن هناك العديد بل الكثير من الأسباب المؤدية إلى حالة عدم الاستقرار وتردي الحالة الأمنية في المناطق المحررة بشكل عام ومن أهم هذه الأسباب:
- عدم وجود هيكلية حقيقية من أجل صياغة جديدة لمؤسسة أمنية موحدة شاملة بقيادات وعناصر مختصة.
- عدم وجود جيش وطني حقيقي بقيادة عسكرية وأمنية وأكاديمية واحدة يتوفر لديها الوعي والخبرة والحزم، وتستطيع بكفاءتها العالية مسك زمام الأمور وضبط الأوضاع في المناطق المحررة كلها والعمل الهادف على استقرارها.
- قلة خبرة ووعي القادة والعناصر القائمين على الملف الأمني والميداني، وانخفاض مستوى الحس الأمني لديهم، وهذا ما تسبب بوجود الفجوات السلبية الكثيرة والجوانب الأمنية والميدانية المكشوفة تماما .
- غياب المساءلة والمحاسبة القانونية للمقصرين في الناحية الأمنية بسبب المحسوبيات وعدم رغبة أو قدرة القادة العسكريين على فرض الأوامر على الفصائل المسلحة.
- عدم وجود دور حقيقي وفعال للمؤسسة القضائية مع تعدد المرجعيات القضائية وارتباطها غالبا بالفصائل المسلّحة وقياداتها.
- عدم وجود آلية وأنظمة حقيقية تقيد عمليات اقتناء الأفراد للسلاح وحمله، سواء كان هذا الفرد مدنياً أم عسكريا، ناهيك عن تحول عمليات بيع السلاح إلى تجارة شائعة ومربحة ويقوم بها المتنفذون في الفصائل وعليه وخاصة مع غياب عنصري الأمن والأمان في مناطق كثيرة دفعت، الكثير من الأهالي إلى اقتناء السلاح تحسباً لأي أخطار قد تهدد حياتهم.
- إحاطة أطراف النزاع جغرافيا بالمناطق المحررة ووجودها على تماس مباشر دائم معها (ميليشيات قسد وعصابات الأسد وميليشياته) وهذا بدوره يجعل المناطق المحررة وخاصة منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون على صفيح ساخن عسكريا و أمنيا.
ختاما، إن فرض الأمن والأمان بشكل حقيقي في مناطق ساخنة كمنطقة درع الفرات وبقية المناطق المحررة لاشك أن فيه الكثير من الصعوبات، ويقف في طريق تحقيقه الكثير من العقبات والعوائق الميدانية خاصة من قبل قوات النظام الأسدي وميليشيات قسد وخلاياهم الإرهابية، ولكن في الوقت نفسه فإن هذا الأمر ليس مستحيلا عندما تتوفر الإرادة الحقيقية والصلبة لدى المؤسسات الأمنية التي تعتبر في كل الدول والمجتمعات العين الساهرة على أمن المناطق وأمانها، وذلك بالتأكيد لا يأتي إلا بعد إعادة تقييمها وهيكلتها بشكل مهني وتلافي أخطائها وسلبياتها وتصحيح مسارها وفق متطلبات المرحلة للوصول إلى الحد الأدنى من الخروقات والحوادث الأمنية .