icon
التغطية الحية

النخبوية (الحزبية) بوصفها توجهاً أيديولوجياً مضاداً أو مزدرياً للمجتمع

2024.09.08 | 03:50 دمشق

8678678
+A
حجم الخط
-A

العمل السياسي (الحزبي) المعاصر عمل نخبويٌّ، بمعنى أنه مقصورٌ، في الأنظمة السياسية المعاصرة، الديمقراطية وغير الديمقراطية، على نسبةٍ ضئيلةٍ من المواطنين، يكون لهم سلطة القرار والتأثير الأكبر والحاسم في توجهات ذلك العمل. لكن تلك النخبوية لا تنفي إمكانية تمتع الحزب السياسي بتأييدٍ شعبيٍّ واسعٍ، أو سعيه إلى أن يكون معبرًا عن توجهات أكبر عددٍ ممكنٍ من المواطنين. في مقابل هذه النخبوية المحايثة للعمل السياسي/ الحزبي (المعاصر)، ثمة معنى آخر أو معانٍ أخرى للنخبوية. وهذا ما أود الحديث عنه، في هذه المقالة، في خصوص الأحزاب السياسية العربية/ السورية عمومًا، واليسارية والإسلامية والقومية منها، خصوصًا.

يمكن القول إنّ القاسم المشترك بين (معظم) الأحزاب اليسارية والإسلامية والقومية، العربية/ السورية، هو نخبويتها التي تعني، من ناحيةٍ أولى، ضعف كم قواعدها الشعبية، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، أنّها ذات توجهٍ أيديولوجيٍّ مضادٍّ للمجتمع وثقافته، لدرجةٍ أو لأخرى. وقد تبدو الأحزاب الإسلامية أقلّ الأحزاب نخبويةً بالمعنى الأوّل؛ لأنها (يمكن أن) تحظى بدعمٍ شعبيٍّ أكبر من الأحزاب اليسارية والقومية، لكنها، بالتأكيد تستند إلى هذا الدعم، من دون وجود روابط تنظيميةٍ وفكريةٍ واضحةٍ معه، لأسبابٍ عديدةٍ، من أهمها الحظر أو القمع الذي تتعرّض له هذه الأحزاب، في كثيرٍ من السياقات والأحيان. وفي كلّ الأحوال، فإنّ نخبويتها، بالمعنى الثاني، ليست أقل من نخبوية الأحزاب القومية.

الأحزاب المذكورة نخبويةٌ؛ لأنّها حاملةٌ لقضايا كبرى، ليس من بينها حريات الأفراد، بل إنّها لا ترى في هؤلاء الأفراد إلا جزءًا من كتلةٍ ضخمةٍ ينبغي تثقيفها أو توعيتها أو توجيهها، وفقًا للاتجاه الأيديولوجي الذي تتبناه. وغالبًا ما يكون الأفراد وحرياتهم ضحايا "القضايا الأيديولوجية الكبرى". وفي كلّ الأحوال، وعلى الرغم من تبني هذه الأحزاب لمفهوم الديمقراطية في برامجها وشعاراتها، لا يكمن الهدف الأساس الذي تسعى إليه في تمثيل أفراد الشعب، بالمعنى الديمقراطي للتمثيل، بل في تغيير وعي أو ثقافة هذا الشعب وقيادته لتحقيق الأيديولوجية التي يتبناها كلّ حزبٍ منها. وتبرز هذه المفارقة في الأحزاب الإسلامية خصوصًا. فهي تنطلق، أولًا، من الخلط بين الأغلبيتين (والأقليتين) الدينية والسياسية، حيث إنّها ترى أنّ المسلم إسلاميٌّ أو مؤّيدٌ لتوّجهاتها الإسلامية الأيديولوجية، بالضرورة. لكنها، في المقابل، ترى ضلالًا أو عدم صحةٍ في الإسلام الشعبي السائد، وتقول بضرورة إصلاحه وتصويبه، أو أسلمته أو جعله إسلامًا صحيحًا. وأظن أنّ المفارقة الطريفة واضحةً: الأحزاب الإسلامية ترى وتستمد مشروعية وجودها من كون (معظم) أفراد الشعب مسلمين، لكنها، في الوقت نفسه، تسعى إلى أسلمة هذا المجتمع أو إحداث تغييرٍ كبيرٍ وجذريٍّ في إسلامه؛ لأنّه ليس إسلامًا صحيحًا، أي ليس إسلامًا متوافقًا مع رؤيتها هي لماهية الإسلام الصحيح.

***

النخبوية، بوصفها توّجهًا أيديولوجيًّا مضادًّا أو حتى مزدريًا للمجتمع، تظهر لدرجةٍ أكبر وأوضح في الأحزاب اليسارية. فغالبًا ما ترى تلك الأحزاب مشكلةً حقيقيةً في حضور الدين في المجال السياسي أو العام فحسب، بل، أحيانًا، في الدين نفسه أيضًا، بوصفه جزءًا من ثقافةٍ غير ديمقراطيةٍ، أو مضادةٍ للديمقراطية والتقدّم. وتكون الديمقراطية، عند هذه الأحزاب، مجرّد وسيلةٍ لتحرير أفراد هذا الشعب من جهلهم وتخلّفهم عن طريق تعليمهم وتنويرهم وعلمنتهم، بالدرجة الأولى. ويقابل ذلك عند الأحزاب الإسلامية "إصلاح (ثقافة أو دين) الشعب، وهدايته". والديمقراطية ليست مفهومًا قوي الحضور في الأحزاب اليسارية والقومية عمومًا، وفي تراثها الفكري النظري والسياسي خصوصًا. ولهذا تبدو دخيلةً على أيديولوجيا تلك الأحزاب، وغير منسجمةٍ، عمومًا وغالبًا، مع بقية العناصر الأيديولوجية التي تتبناها. وهي تعطي أولويةً أكبر لمفاهيم أو أهداف العدالة الاجتماعية أو الوحدة القومية أو التنمية الاقتصادية على حساب مسألة الليبرالية والحريات الفردية، ليس الاقتصادية منها فحسب، بل السياسية منها أيضًا. أمّا الأحزاب الإسلامية، فغالبًا ما يتأسّس تبنيها للديمقراطية على اختزالٍ للديمقراطية في عملية الانتخابات، مع إقصاءٍ للبعد الليبرالي المتعلّق بالحريات الفردية والاجتماعية منها، خصوصًا.

استنادًا إلى ما سبق، يمكن القول إنّ الحمولة الأيديولوجية للأحزاب اليسارية والإسلامية والقومية، العربية/ السورية، مضادةٌ للديمقراطية أو عائقٌ من عوائق التحوّل إليها، على الرغم من التبني المعلن لتلك الأحزاب لها.

وتجدر الإشارة إلى أنّه أصبح من النادر أن تجد طرفًا سياسيًّا مهمًّا يرفض الديمقراطية بحدّ ذاتها. في المقابل يبدو الهجوم على الليبرالية أكثر جرأةً ووضوحًا وقسوةً، في خطابِ سياسيين كثر في عالمنا والعوالم الأخرى (بوتين مثلًا). وعمومًا، تسود، في الدول والمجتمعات العربية، توّجهاتٌ جماعيةٌ أو جمعيةٌ غير متقبلةٍ، كثيرًا، لفردية الفرد وحرياته الاجتماعية والسياسية. وينبغي للنضال من أجل الديمقراطية أن يكون متوازيًا ومتحالفًا مع أيّ نضالٍ من أجل الليبرالية والحريات الفردية؛ لأنّ الليبرالية، في صيغتها السياسية والاجتماعية، شرطٌ من شروط الديمقراطية، ولا يمكن أن تكون مضادًّة لها، كما تزعم بعض الأحزاب والأطراف السياسية. وكذلك الحال في مسائل العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية المستدامة. فمن الناحيتين النظرية والعملية ثبُتَ وجود ترابطٍ عضويٍّ وثيقٍ بين العدالة والتنمية المذكورتين، من جهةٍ، والديمقراطية وحرية الأفراد، من جهةٍ أخرى.

وأرى، مع كثيرين، أنّ معظم المزاعم والممارسات الأيديولوجية التي كانت تنطلق من ضرورة التخلّي (المؤقت) عن مبادئ الديمقراطية وقيمها وتطبيقها في المجال السياسي، بحجّة أولوية عمليات التنمية والتغيير البنيوي للدولة والمجتمع (أو أولوية تحرير الأراضي المحتلة ومجابهة العدو الخارجي) قد ثبت فشلها، لأنّ "التنمية حرية"، كما يقول أمارتيا سِن، والحرية تتطلّب حدًّا أدنى من العدالة الاجتماعية؛ وتحقيق العدالة الاجتماعية هو لب التنمية أو أحد أبرز أهدافها، أو ينبغي أن يكون كذلك، في جميع الأحوال.