نتابع جميعًا تفاصيل النزوح واللجوء التي تتزامن على نحو غير مسبوق مع الحرب الإسرائيلية على لبنان. وإذا كنا جميعًا مع تقديم كل التسهيلات الممكنة لعودة اللاجئين السوريين من لبنان إلى بلدهم، فإن تحرك هؤلاء إلى مناطقهم ومدنهم وقراهم الأصلية شكّل تحديًا كبيرًا للأطراف التي تتقاسم السيطرة العسكرية في البلاد من جهة، إضافة إلى الهواجس والمخاوف التي أثارها تدفق عشرات الآلاف من اللبنانيين إلى سوريا، من حيث طبيعة الأماكن التي يستهدفونها.
النظام السوري قام بإعفاء السوريين القادمين من لبنان من مهزلة تصريف المئة دولار لأسبوع، ثم لعشرة أيام أخرى. وفي الوقت الذي أعلن فيه مصدر في إدارة الهجرة والجوازات التابعة لحكومة النظام أن عدد العائدين السوريين بلغ 219,400 عائد حتى يوم الأحد 6 تشرين الأول الجاري، أكد أن عدد الوافدين اللبنانيين إلى سوريا بلغ نحو 78,500 لاجئ، وهو رقم كبير جدًا في ظل الظروف التي تعاني منها سوريا أصلًا.
ومن خلال مقارنة هذه الأرقام مع ما تحدثت عنه "قسد" من أرقام بلغت قرابة 16,000 سوري دخلوا مناطق سيطرتها، حيث أعلنت عن ذهاب معظمهم إلى مناطقهم الأصلية أو إلى أقارب لهم، وتجهيز مركز إيواء في الرقة، بينما استقبلت مناطق المعارضة 2,000 سوري وصلوا عبر معبر عون الدادات، ذهب منهم المئات إلى إدلب. فإنه لا يُعرف على وجه الدقة أين ذهب قرابة مئتي ألف سوري قدِموا من لبنان وبقوا في مناطق سيطرة النظام، وكيف توزعوا في تلك المناطق، حيث لم تقدم حكومة دمشق تفاصيل بهذا الشأن.
وقد عزا ذلك بعض المراقبين إلى عدم اهتمامها باللاجئين السوريين العائدين، وعدم متابعتها لأوضاعهم. بينما كان اهتمام النظام باللاجئين اللبنانيين بارزًا منذ أول اجتماع عقدته حكومة النظام برئاسة بشار الأسد.
وهكذا، منذ الأيام الأولى لتوافد هؤلاء، بدا واضحًا رغبتهم في التوجه إلى مناطق في دمشق وريفيها الغربي والجنوبي وحمص وريفها الغربي، وهي مناطق سيطرة ميليشيات حزب الله. كما أن آلافًا منهم اتجهوا إلى حلب مدينة وأطرافًا.
الأوتشا اعتمدت أيضًا بشكل أساسي على الهلال الأحمر العربي السوري على الحدود لمراقبة الوضع وإجراء عمليات تقييم للاحتياجات الإنسانية.
هذه التحركات، وإن كانت طبيعية في ظاهرها، إلا أنها قد أثارت هواجس ومخاوف فيما إذا كانت قابلة للتحول إلى حالة ديمغرافية سياسية وعسكرية مثيرة للقلق، لا سيما أن الحرب الإسرائيلية التي تسير باتجاه أكثر عنفًا واتساعًا، يتوقع أن تؤدي إلى مضاعفة مستمرة لأعدادهم، حيث يتم الحديث عن استمرار الحرب على الوتيرة نفسها لأسابيع ما قبل الانتخابات الأميركية على الأقل.
النظام السوري أعلن عن تجهيزه مراكز للإيواء خاصة باللبنانيين، في أغلب تلك المناطق، في ريف دمشق، وفي ريف حمص الحدودي مع لبنان، وكذلك في طرطوس، ثم في اللاذقية.
ولكن اللافت هو قيامه بافتتاح مركزٍ على الأقل في الغوطة الشرقية. وعلى الرغم من أن أغلب اللبنانيين في البداية لم يفضلوا الاستقرار في تلك المراكز، إلا أن أحداث اعتداءات شعبوية لأنصار حزب الله في مدينة حمص على مواطنين سوريين مدنيين، وغيرها من التصرفات العدائية للحزب، أدت إلى بروز مخاوف أمنية.
ومع بروز مكاسب مهمة ذات غطاء إنساني، اندفع النظام للضغط باتجاه اتخاذ بعض الترتيبات الاحترازية لإجبار اللاجئين اللبنانيين على التوجه إلى تلك المراكز، حيث تم طرح الهلال الأحمر العربي السوري (التابع للنظام) إلى جانب الأمانة السورية للتنمية كشريكيْن أساسيين أمام مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (الأوتشا) في تنفيذ برامج مساعدات طارئة لهم، وذلك بعد حشد استجابة فورية لتوفير المياه والغذاء والفرش والبطانيات وغيرها من المواد غير الغذائية الأساسية.
الأوتشا اعتمدت أيضًا بشكل أساسي على الهلال الأحمر العربي السوري على الحدود لمراقبة الوضع وإجراء عمليات تقييم للاحتياجات الإنسانية.
وأمام هذه الفرص في تحقيق المكاسب السياسية، والتي تأخذ غطاءً إنسانيًا واضحًا، خرجت "قسد" وأعلنت عن السماح للبنانيين بالدخول إلى مناطق سيطرتها. وقد بدا واضحًا من خلال التغطية الإعلامية استعداد ما يُعرف بالإدارة الذاتية التابعة لها لاستيعاب المزيد عبر شركائها وأذرعها المدنية.
يجب الاهتمام بمراقبة تحركات اللاجئين اللبنانيين وتموضعهم، وتسليط الضوء على أي مخططات قد يتم تمريرها على حساب الجغرافيا الديمغرافية الأصلية.
الاتحاد الأوروبي كان يتابع المجريات عن كثب، وفق آخر تحديث لأرقام اللاجئين القادمين من لبنان المُشار إليها. وعلى ما يبدو فإنه تأثر في تدخله الأولي بذلك التوزع الذي تم شرحه، حيث قدم تمويلًا طارئًا فوريًا بقيمة 500 ألف يورو للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي تعمل حاليًا على المعابر الحدودية الرئيسية الأربعة للاستجابة السريعة لاحتياجات النازحين الأكثر ضعفًا. وتدعم هذه الأموال ثلاثة أشهر من العمليات الإنسانية، التي تركز في المقام الأول على توزيع مواد المأوى التي تشتد الحاجة إليها، بما في ذلك 10,000 مرتبة وبطانية. والأهم من هذه الأرقام هو تكليف الاتحاد الأوروبي الهلال الأحمر العربي السوري مسؤولية توزيع هذه المساعدات، مشيرًا إلى اعتباره -أي الهلال الأحمر العربي السوري- الموجود حاليًا في مقدمة الاستجابة للطوارئ. ولا يشك أحد في أن هذا التطور يشكل مكسبًا مهمًا للنظام، أمام الخيارات الأخرى التي كان بإمكان الاتحاد الأوروبي خلقها.
وإذا ما عدنا إلى الأرقام مجددًا، وقمنا بمقارنتها مع نسب السيطرة العسكرية بين الأطراف الثلاثة، النظام و"قسد" والمعارضة، وربطنا ذلك بأساس المناطق الأصلية لأغلب العائدين السوريين وفق تقديرات نتائج الحرب في سوريا، فإنها تشير إلى تفاوت واضح وبارز لصالح النظام. وهذا قد يشكل مدلولات سياسية وإدارية يجب الاهتمام بها، في ظل التحولات المتوقعة في العلاقات السياسية بين أنقرة ودمشق.
وفي ظل تطلعات "قسد" للعب دور مهم وتحقيق نصيب من المكاسب، يصبح من الضروري على الأجسام العاملة في مناطق المعارضة العمل بشكل حثيث على فتح أبواب المناطق الموسومة بالمحررة أمام جميع السوريين العائدين إلى مناطقهم الأصلية، والعمل الجاد على تأمين احتياجاتهم في ظل هذه الحالة التنافسية الخاضعة لرقابة جميع الأطراف الأممية والدولية والعربية، والتي قد يكون لها أثر ما في طاولات بحث مستقبل التقسيم الحالي للسيطرة العسكرية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب الاهتمام بمراقبة تحركات اللاجئين اللبنانيين وتموضعهم، وتسليط الضوء على أي مخططات قد يتم تمريرها على حساب الجغرافيا الديمغرافية الأصلية، المنتهكة أصلًا في جزء كبير منها، والمستهدفة من قبل أطراف عديدة داخلية وخارجية.