نعرف أن ممارسة السياسة في تطبيقها الديمقراطي الأساسي هي ضمان تنافس عادل بين كتل سياسية أو أحزاب أو تحالفات، في سعيها لتسلُّم مسؤوليات إدارة الشؤون العامة (السلطة)، أو المشاركة فيها بصورة فعّالة.
حيث يبقى الحزب أو أيَّ مسمىً يمثل إطاراً سياسيا وفكرياً واجتماعياً موحداً أو متآلفاً، هو الأكثر قدرة على تقديم أفضل المرشحين لتولي المسؤوليات العامة، عن طريق طرح أسمائهم ووجوههم إلى الرأي العام، بصورة تسمح بالوصول لسيرهم الذاتية التي تتضمن كفاءتهم وخبراتهم، والتي يراها الحزب كفيلة بإنجاز برامج عمله المقترحة وفق رؤيته للفترة القادمة، ولإنجاز الوعود الانتخابية التي يطلقها بحسب رسالته السياسية، ولاسيما تلك الوعود المتعلقة بالعدالة وأمن المجتمع وسيادة الدولة وتوظيف الموارد الطبيعية بصورة عادلة، وكذلك طبعاً فيما يتعلق بالخدمات العامة كالأمن والصحة والتعليم، وتوسيع ونمو الاقتصاد وتنفيذ خطط التنمية وما إلى ذلك.
طريقة الطرح هذه يجب أن تهتم أيضاً بالحالة النفسية للمواطنين ونظرتهم المتشائمة أو المتفائلة تجاه الحاضر والمستقبل. ومن خلال ذلك كله تسعى كل كتلة لإقناع الناخبين بالمبادرة باختيار مرشحيها لقيادة البلاد كبديل عن السلطة القائمة، بينما تسعى الكتلة الموجودة بالسلطة إلى اقناع الناس بأنها الخيار الأفضل للبقاء. حيث بقيت الأحزاب في العصر الحديث أهم وسيلة للمجتمع المدني للقيام بفرض وجود له قيمة في الحياة السياسية في أي بلد، سواء في ظل نظام ديمقراطي بالكليِّة أو في إطار السعي للانتقال إلى نظام سياسي أكثر ديمقراطية، وكذلك بالطبع لمواجهة نظام شمولي غير ديمقراطي كما هو الحال في سوريا.
وهنا إذا ما قمنا بنقل هذه البديهيات والأساسيات وربما المبادئ اللازمة لأي عمل سياسي مؤثر إلى المشهد السوري الحالي والمستقبلي، واستطلعنا أحوال المعارضة السورية بأشكالها وأجسامها الحالية، فإننا سنلاحظ بوضوح غياب أي إطار سياسي من طيف فكري واجتماعي واضح المعالم والأهداف، مؤهل للعب دور سياسي حقيقي حالياً ومستقبلاً.
وهكذا بعد اثنتي عشرة سنة من الانتفاضة الشعبية السلمية والثورة المسلحة، والتدخلات الخارجية، وصراع المشاريع والحرب بالوكالة، ثم تخفيض التصعيد والتسويات والتفاوض والاجتماعات والمؤتمرات، والجولات التفاوضية التي تبحث عن الحل السياسي، تفتقد المعارضة السورية إلى وجود بارز لأي تيار فكري أو مجموعة فكرية أو حتى جماعة مصالح أو لتجمع تمثيلي معين يُمكنها من تشكيل حزب سياسي واحد ذي قيمة اعتبارية فكرية وشعبية، ويمكن أن يشكل نواة نشطة لحراك سياسي ممكن في مواجهة حزب النظام، في أي مرحلة قادمة، حتى لو كانت على سبيل تأمين متطلبات افتراضية وشكلية لمراسم وبروتوكولات عملية انتقال سياسي، تتضمن تعددية سياسية بالحد الأدنى، بل وحتى عملية انتقالية تشاركية.
على نطاق المجتمع المدني، فإن منظماته الإنسانية بقيت هي الطاغية، والتي بقيت تعمل في حدود أجندة المانحين في مشاريع الاستجابة الطارئة، بينما انقسمت النقابات المهنية على نفسها بشكل مأساوي.
فإذا انطلقنا من الواقع الحالي للمعارضة السورية، فـإننا نجد تأثيرها وثقلها منحصراً على الفصائل المسلحة، والتي لا تقوم بأية محاولة جادة لإنشاء ولو مكاتب سياسية معتبرة، يمكن أن تتفاهم فيما بينها على إطار سياسي موسع يمكن أن يؤدي لدعم ولادة حزب، تتآلف فيه قوى الثورة على مرتكزات وطنية مشتركة وعامة، قادرة على استيعاب بعض التباينات التي تمنع تشكيل حزب محدد الأهداف والرؤية والرسالة، أو على الأقل تشجيع إطلاق عملية حوار تسعى لتحقيق ذلك، أو حتى رعاية أي نوع من الأنشطة السياسية وحمايتها. ثم وجدنا منذ سنوات الانتقال إلى العمل في المجتمع الأهلي في نطاق القبائل والعشائر كتعويض غير مجدٍ عن غياب الأحزاب والحياة السياسية، وقد ثبتت عدم فعالية التجربة. أما على نطاق المجتمع المدني، فإن منظماته الإنسانية بقيت هي الطاغية، والتي بقيت تعمل في حدود أجندة المانحين في مشاريع الاستجابة الطارئة، بينما انقسمت النقابات المهنية على نفسها بشكل مأساوي.
وباعتبار أن إسقاط النظام بالصورة التي كانت تطمح الثورة لها أمسى صعباً للغاية، ضمن المُعطيات الحالية على الأقل، حيث يتحدث الجميع عن الحل السياسي في إطار شرعنة وإعادة تأهيل نظام بشار الأسد، فإن وضع المعارضة السورية من حيث ثقلها السياسي يبدو هزيلاً جداً. ولفهم ذلك يمكن أن نفترض -على سبيل المثال-أن تطورات معينة متتالية على صعيد المفاوضات، التي تتم بإشراف وتدخل إقليمي ودولي، أدت إلى إطلاق عملية تطبيق مبرمجة للقرار الأممي /2254/، بمعنى خطة مجدولة زمنياً لمراحل عملية سياسية انتقالية، تتضمن عملية انتخابية في غضون ثلاث سنوات -مثلاً-بضمانات إقليمية ورعاية دولية وإشراف أممي، وأصبح واجبا على المعارضة السورية بناء كتلة سياسية متجانسة لمواجهة كتلة النظام وحزب البعث، هنا بالتحديد سيكون موعد المعارضة السورية مع الامتحان السياسي الحقيقي والذي يمكن بحث التحضير له بسؤالين صعبين للغاية:
- فتُرى، ما هو شكل وطبيعة وهوية الإطار السياسي الذي يمكن أن تتوافق عليه المعارضة السورية؟ والذي سيعطي لشعبنا فرصة حقيقية لتأمين خيار قابل للنجاح لتحقيق المطالب بالديمقراطية ونظام الحكم ذي التعددية السياسية، في مواجهة النظام الشمولي القائم على سيادة نخبة، تدير حزب البعث وتحالفات سياسية واجتماعية ومصلحية، وتعطي النظام خيارات ووجوهاً متنوعة من الكفاءات والخبرات التي لا يمكن التقليل من قيمتها.
- ثم، من هم الأشخاص والكفاءات التي يمكن أن ترشحها هذه المعارضة لشغل مسؤوليات حساسة؟ أو تمثيلها بقوائم انتخابية يمكن أن تقنع الناس بتوفر القدرة على خلق بديل محتمل، ولو كان انتقالياً أو توافقياً، أو على الأقل شغل مواقع حساسة وسيادية ومؤثرة ضمن حكومة انتقالية، أو حتى مجلس حكم انتقالي مُسمىً ومقبولٍ شعبياً.
استمرار فقدان الإطار السياسي والعمل الحزبي المطلوب في المعارضة السورية للعب دور مستقبلي في الحياة السياسية، والتمسك بتقزيمها وإخضاعها واختصارها بحدود الواقع العسكري الذي يُشار إلى أنه جاء نتيجة اتفاقات وتفاهمات بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في سوريا.
هذان السؤالان الرئيسيان ليسا اعتباطيين، أو خياليين، وإن ارتبطا بحالة افتراضية مستقبلية، بل هما في الحقيقة يمثلان المعضلة التي تسببت بالكثير من الخسارات الماضية، ولابد للمعارضة السورية من الاهتمام بتقديم إجابات مُخططة وعملية عنهما، لكيلا يستمر النزيف في قيمتها وتأثيرها، وصولاً لموتها سياسياً.
وإذا أردنا تسليط الضوء على المشكلة بصورة أكثر تحديداً وتبسيطاً، وبسؤالين مترادفين أكثر وضوحاً وبساطة، وانطلاقاً من وجود مبررات متعددة ومتكررة نتحدث عنها كمعارضة لتبرير الفشل في تشكيل حزب أو إطار سياسي يمكن البناء عليه، فلنذهب إلى بحث حالة شعبية انتخابية طبيعية وبسيطة في أي ديمقراطية انتقالية أو مبتدئة، بل ومتقدمة، وهي المنازلة الثنائية بين شخصيتين سياسيتين على زعامة المرحلة، وهذا يتوافق مع ما يمكن أن يميل إليه الكثير من شعبنا ويرغب برؤيته، ويعتبره البعض إحدى ذرى العملية الديمقراطية، ولاسيما المتيمين بشخصية القائد والمقتنعين بضرورة وجوده في المرحلة القادمة، وهي حقيقة مؤثرة في مجتمعنا شئنا أم أبينا، لنسأل:
- ما هو الإطار السياسي ذو القاعدة الشعبية اللازمة لدعم شخصية معارضة بعينها في منافسة بشار الأسد أو أي بديل عنه يمثل النظام وكتلته في انتخابات تنافسية مفترضة؟!
- بل من هي تلك الشخصية المعارضة أصلاً؟ والتي يمكن الاجتماع أو التوافق عليها لمواجهة بشار الأسد أو بديله.
جميع الأسئلة السابقة ليست أسئلة بعيدة عن تناول أحاديث شعبنا والكثيرين ممن يهتمون بالشأن السوري، بل هي أسئلة طرحها وسيطرحها العديد من القيادات والزعامات والمسؤولين السياسيين في الدول النافذة في بلادنا. ولا نستغرب أن عدم توفر إجابات مقنعة لدى تلك الدول هي التي شكلت ذرائع من أجل تبرير الذهاب لبشار الأسد مجدداً، والتطبيع معه، ودعوته للمصالحة، وما إلى ذلك، رغم أن هناك من يشير إلى أنها =أي هذه الدول-مسؤولة بشكل أو بآخر عما وصلت إليه المعارضة السورية من حالة تشظٍ، بل -ربما-حالة تيه سياسي حقيقي.
من الواضح أن تقديم الإجابات عن هذه الأسئلة الصعبة ليس ولن يكون عملاً فردياً، بل هو بحاجة إلى مراجعة حقيقية لعمل المعارضة السورية، ويحتاج إلى عملية بحثية تشاركية حقيقية وربما أكثر، عملية تكفل مناقشة موضوعية مجردة بعيداً عن الرغبات والآراء الشخصية. ولكن ذلك لن يمنعنا من تقديم خلاصة أولية انطلاقاً من الصورة الحالية للمعارضة بشكل سيناريو نراه منطقياً، وبافتراض بقائها على ما هي عليه. فاستمرار فقدان الإطار السياسي والعمل الحزبي المطلوب في المعارضة السورية للعب دور مستقبلي في الحياة السياسية، والتمسك بتقزيمها وإخضاعها واختصارها بحدود الواقع العسكري الذي يُشار إلى أنه جاء نتيجة اتفاقات وتفاهمات بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في سوريا، وبأن يقتصر وجودها فصائلياً وعشائرياً وإنسانياً ونقابياً، هو لحرمانها من الوجود السياسي المؤثر الذي يسمح لها بمنافسة النظام مستقبلاً، وإجبارها على تنفيذ وتسهيل دمجها ضمن محاصصة عسكرية وأمنية ومصلحية توافقية معه، وفق توسيع نموذج (درعا) واستنساخه، مع بعض التعديلات الضرورية بما يضمن مصالح الدول النافذة، بينما ستبقى الشرعية السياسية مناطة بالنظام، نخبته الحاكمة في الجيش والأجهزة الأمنية وحزبه وواجهاته السياسية والاقتصادية والمهنية.
شعبنا بحاجة ماسة إلى حراك سياسي حقيقي يفضي إلى أمل بوجود بديل سياسي يمثل مصالحه الوطنية العليا، وليس مصالح فئوية ومناطقية ضيقة يُعتبر النظام الأكثر احترافاً في إعادة دمجها في منظومته العنكبوتية أو ابتلاعها من جديد.
هذا النظام وإن أظهر -ضمن الظروف الراهنة- محاباة لتلك القوى الإقليمية وأذرعها المحلية، إلا أن حافزه من ذلك - وفق ما يؤكد ممثلوه في إعلام الرسمي على الأقل- لا يتعدى ممارسة نوعية للبراغماتية السياسية، وذلك في إطار سعيه الحثيث لتحقيق مصالح اقتصادية استراتيجية، مرتبطة بتحقيق أهداف محددة ذات أولوية عليا متدرجة، من قبيل فتح الطرق الدولية، وتأمين مركزية دمشق في تلقي الدعم الدولي لمشاريع التعافي المبكر، واستعادة السيطرة على الموارد النفطية، وزيادة التدفقات المالية الخارجية المتنوعة مع الزيادة المطردة في عودة اللاجئين السوريين، أو بالأحرى إعادتهم. هذه الإعادة التي أصبحت سياسة إقليمية ودولية واضحة المعالم والتطبيقات المتزامنة، ويتم خلق كل الأسباب لتنفيذها مستقبلاً، وربما على عجل، وترسيخ تحويل القضية السورية إلى مجرد قضية إنسانية اقتصادية واجتماعية على أهميتها. في الوقت الذي يكون النظام وحزبه من جديد قائد الدولة في إطار مشروع إعادة الإعمار عبر شراكة صلبة مع حلفائه الأوفياء القدامى، أو الشركاء الجدد.
هذا السيناريو هو الأسوأ الذي يمكن أن يُجبر شعبنا على التعايش معه لعقود قادمة، في حال بقيت المعارضة السورية تدور حول حلقاتها المفرغة الحالية، وتختصر تأثيرها السياسي الحالي بالفصائل والعشائر ومنظمات الاستجابة الطارئة والنقابات الفاشلة، فشعبنا بحاجة ماسة إلى حراك سياسي حقيقي يفضي إلى أمل بوجود بديل سياسي يمثل مصالحه الوطنية العليا، وليس مصالح فئوية ومناطقية ضيقة يُعتبر النظام الأكثر احترافاً في إعادة دمجها في منظومته العنكبوتية أو ابتلاعها من جديد.