لم تمض إلّا ساعاتٌ قليلة، حتى نفت نقابة المعلمين في اعزاز شمالي حلب، التوصّل لاتفاقٍ مع المكتب التعليمي في مجلس اعزاز المحلي، يقضي بإنهاء الإضراب واستئناف العمل في المدارس.
مديرية التربية والتعليم في "محلي اعزاز" أعلنت، يوم الخميس الفائت، التوصّل لاتفاقٍ مع المعلمين المُضربين يقضي بإنهاء الإضراب وافتتاح المدارس، أمس الأحد، على أن تكون هناك مجموعة من الإجراءات التي تتضمن تحقيق مطالب المعلمين.
ومن النقاط المتفق عليها بين الطرفين والتي حصل موقع تلفزيون سوريا على نسخةٍ منها، هي:
- تشكيل صندوق مالي لدعم العملية التعليمية (يمثّل ويشرف على عملهِ: تجمع أهالي اعزاز، المجلس المحلي، نقابة المعلمين).
- إعادة انتخاب شعبة نقابة المعلمين تُكلّف بتسيير الأعمال إلى حين انتخاب نقابة جديدة.
- يُلغى البلاغ الإداري الصادر عن المكتب التعليمي ويكون ساري المفعول على المعلمين الذين لم يلتحقوا بالدوام بعد إعلان فك الإضراب.
- بعد الاتفاق الحاصل تتعهد نقابة المعلمين بفك الإضراب وافتتاح المدارس اعتباراً من يوم الاحد المصادف 2 تشرين الأول 2022.
أبرز تلك الإجراءات التي عرضها بيان المكتب التعليمي هو تشكيل صندوق مالي لدعم العملية التعليمية، وإلغاء البلاغ الصادر عنه بخصوص إيقاف الجداول المالية، بشرط بدء العملية التعليمية.
هذا الإعلان أظهر انفراجة في المواقف بين نقابة المعلمين والمكتب التعليمي في "محلي اعزاز"، حين التقت جهتا التعليم في بيانٍ "موحّدِ الرؤى" للمرة الأولى، برعاية وجهاء المدينة، الذين نظّموا اجتماعين متتاليَين في كلٍ من "مضافة الحاج فهد كسيبة"، والمكتب التجاري في اعزاز.
لكن ما لم يظهر للعلن، هو أن هذه الاتفاقات لم تكن مكتملة النصاب حتى تُنجَز، فالعناوين العريضة كانت تحمل في تفاصيلها جذور خلافٍ أصيلٍ لم يكن لينتهي بجلستين.
تواصلنا مع محمد صباح حميدي - نقيب "نقابة المعلمين السوريين الأحرار" - عقب صدور بيان النقابة الداعي لاستمرار الإضراب، فأوضح أن المكتب التعليمي في اعزاز ما يزال يرفض الاعتراف بالنقابة كممثلٍ شرعيّ للمعلمين، وأن الصندوق المالي يجب أن يتضمّن عضوية المعلمين في النقابة، ولا يمكن تنفيذ بنود الاتفاق من دون تحديد هاتين المسألتين.
في حين أوضح رئيس المكتب التعليمي يوسف حاجولة، في لقاءٍ سابق، عن رفض نقابة المعلمين دعواتِ مديرية التربية للجلوس والحوار، بغيةَ النقاش في تفاصيل العملية التعليمية للمنطقة.
تبادلٌ للاتهامات بالتجاهل والرفض بين الطرفين، يجعل القضية الأولى هي قضية الاعتراف والثقة، فكِلتا الجهتين لا تثق بالأخرى، ولا تعتبرها طرفاً لتسهيل الحل، أو الحوار.
ما الحلول؟
يعتبر تعميم مديرية التربية في اعزاز الصادر، يوم الأربعاء الفائت، بمنزلة الخطوة الأخيرة لكسر الإضراب في المدينة، حيث نصّ التعميم على ضرورة التحاق المعلمين بالمدارس تحت طائلة إيقاف الجدول المالي للمعلمين غير الملتحقين، وتأجل موعد تنفيذ هذا التعميم حتى أمس الأحد (2 تشرين الأول 2022)، بعد جلسات عديدة ومشاورات بين وجهاء اعزاز وطرَفي العملية التعليمية في المدينة.
يقضي التعميمُ بأن المعلم الذي لا يلتحق بالدوام في صفّه، بتاريخ 2 تشرين الأول 2022، سيواجهُ إيقاف التعويض المالي الذي يتقاضاه عن طريق مركز البريد التركي (PTT)، المُحدّد بـ1100 ليرة تركية للمتزوج، و 1000 ليرة تركية للعازب.
هذا الحل يراه "محلي اعزاز" آخرَ وسيلةٍ لكسر الإضراب في المدينة، مع اعترافه بعدم كفاية المنحة المالية المقدمة، وضرورة زيادتها من قبل الطرف التركي المسؤول عن دفعها.
بدوره، قال - "حاجولة" رئيس المكتب التعليمي في "محلي اعزاز" - في اجتماعٍ أمام وجهاء مدينة اعزاز، إن جميع الطلبات التي رفعتها النقابة بهدف إصلاح العملية التعليمية جرى الاتفاق على العمل عليها مع نقابة المعلمين، يوم الأربعاء الفائت، عبرَ خططٍ مرحليةٍ، بينها مراجعةُ المناهج وأشكال الإدارة وأمور أخرى، مؤكّداً أن التعويض المالي هو الطلب الوحيد الذي لم يستطع المكتب التعليمي حلّه، كونه مرتبطا بخطط الإدارة التركية للمنطقة، بعيداً عن الإدارة المحلّية للعملية التعليمية.
نقابة المعلمين ترى في الاعتراف بالنقابة كممثل شرعي للمعلمين -كونها جزءاً من حلّ المشكلة- بأنّه إحدى الوسائل التي تكفل استمرار العملية التعليمية، وتضمن مساهمة المعلمين بشكلٍ حقيقي، وتحمّل المسؤوليات، بالاشتراك مع مديريات التربية في المنطقة.
فالنقابة ترى أن بدائل المنحة المالية المقدمة من تركيا يمكن العمل عليها، أو العمل على زيادتها، من خلال إعطاء المعلمين فرصة لإعادة بناء العملية التعليمية بعيداً عن الوصاية الخارجية، والتي قيّدت العملية بشكل كامل، وتسبّبت في تراجعها، ويمكن للمعلم أن يعمل مجاناً حين إخراجه من قيود الإشراف الخارجي الذي لا يكفل حقوق المعلم.
"التعليم الخاص بديلٌ قاسٍ"
نشط التعليم الخاص بشكل واضح، مع بداية العام الدراسي 2022–2023، لأسباب متعددة، تذكر نقابة المعلمين منها: ارتفاع أعداد الطلاب وسيطرة جهات أمنية وعسكرية على مدارس ومراكز تعليم في المنطقة، واستخدامها لأغراض خاصّة بتلك المؤسسات.
في مدينة اعزاز تشغل المؤسسات الأمنية مدرستين اثنتين، في حين يشغل القضاء مدرسةً أخرى شمالي المدينة، مع إلغاء مدرسة رابعة لصالح مديرية الأوقاف، وهذا ما يقلّص حجم المقاعد الدراسية بنسبةٍ تقارب 20% من نسبة المقاعد المتاحة فعلياً في المدينة.
ورغم التوسعات التي شهدتها المدارس العامة، منذ عام 2017، بدعمٍ من منظماتٍ وجمعياتٍ خيرية، إلا أنها لم تستوعب سوى أعداد قليلة من المطلوب.
رئيس المكتب التعليمي يوسف حاجولة تحدّث للوجهاء عن نقصٍ حادٍ في أعداد المقاعد الدراسية، حيث يواجه نحو 700 طالب من المرحلة الإعدادية أزمة مقاعد دراسية، بسبب ارتفاع أعداد الطلاب وعدم تناسب التشييد العمراني للمدارس مع تلك الزيادة.
وهذا ما وجّه نقدَ المعلمين نحو "محلي اعزاز" بعد إحداث التربية التركية لمدرسة العلوم والتكنولوجيا بمواصفاتٍ عاليةٍ جنوبي المدينة، والتي تستوعب أعدادا قليلة من الطلاب سنوياً، في حين تحتاج اعزاز إلى مدارس عامّة للتعليم الأساسي والثانوي.
وفق تلك المُعطيات ينشط التعليم الخاص الذي تزامن مع إضراب المعلمين، فباتت الحاجة ملحّة للتسجيل في المدارس الخاصّة التي تتراوح أقساطها بين 16 و 25 دولاراً شهرياً للتعليم الابتدائي، في حين يبلغ متوسط كلفة دورات التعليم الثانوي للشهادات 450 دولاراً سنوياً.
وينتقد بعض الأهالي إضراب المعلمين في المدارس العامة، ويطالبون بالمساواة بفرض إضرابٍ موازٍ على التعليم الخاص، فلا تعليم للأغنياء إن لم يكن التعليم متاحاً للجميع، وهذا ما كان واضحاً خلال التسجيل الصوتي الذي أرسله أحد المواطنين في منطقة الباب شرقي حلب، مساء أمس الثلاثاء، يطالب فيه الوالي التركي ومسؤول المنطقة بوضع حدٍّ لإضراب المعلمين، "مُهدّداً بتدخّل الأهالي لوضع هذا الحدّ، مُتّهماً المعلمين المُضربين (بالشراكة) مع مؤسسات التعليم الخاص".
"مصدر الأزمة"
من خلال لقاءاتٍ عديدةٍ حضرها مكتب اعزاز الإعلامي للمكتب التعليمي ونقابة المعلمين، ولجانِ الوساطة، فإن نقص المعلومات وغياب المرجعية الواضحة في التعليم هو المسبّب الرئيسي لمجملِ المشاكل الحاصلة في العملية التعليمية بالمنطقة، فلا أحد يعلمُ مصدر المنحة المالية المقدمة للمعلمين، ولا كميتها الحقيقية ولا آلية توزيعها.
تقول الروايات المتوفرة التي حصل عليها بعض الأشخاص ذوي الصلة بالمنسّقين الأتراك في المنطقة، من مصاد تركيّة غير رسمية، إن المنحة التركية هي مساعدة من قطر تتضمن مبلغ 120 دولاراً يصل للمعلم شهرياً، ومبالغ أخرى تستخدمها التربية التركية لدعم العملية التعليمية في المنطقة.
في حين كانت المنحة التي يتلقّاها المعلم، عام 2017، تعادل 170 دولاراً شهرياً من المصدر ذاته، وانخفض هذا المبلغ باستمرار مع انهيار الليرة التركية، ليصل اليوم الى 60 دولاراً حسب سعر الصرف الحالي.
المنحة ليست هي العائق الوحيد فقط أمام إنهاء الإضراب، بل تعليمات إضافية "شفهية" تتلقّاها مديريات التربية التابعة للمجالس المحلية في ريف حلب، من التربية التركية في كل ولاية على حِدَة.
أبرز تلك التعليمات هي توقيع المعلمين على وثيقة تحدّ من حرية المعلم في المشاركة بالأنشطة العامة المختلفة، بينها منعه من المشاركة بالتظاهر، إضافةً إلى تحديد نظام عمله بالتطوّع، والبدل الذي يحصل عليه بوصفه "منحة" وليس راتباً يتم تحديده وفق سلّم خبرة، ولا يضمن تقاعداً مستقراً للمعلم.
الحلول المطروحة
طرح وجهاء مدينة اعزاز خلال اجتماعاتٍ ثلاث جرت، خلال العامين الفائت والجاري، مجموعةً من الاقتراحات كحلول تكفل استقراراً مالياً – نسبياً – للمعلم، قوبِلت معظمها بالرفض، بسبب عدم القدرة على تنفيذها، أو عدم قبولها من المعلمين، بين تلك الاقتراحات فرض رسوم على المعاملات الرسمية في جميع الدوائر الرسمية، على شكل طوابعَ يتم تحصيلها لصالح المعلمين، أو نقابة المعلمين.
واقتُرح أيضاً إنشاء جمعية استهلاكية تقدم موادَ غذائية ومستلزمات أساسية بأسعار مخفّضة للمعلمين، يُدعم صندوقها من قبل وجهاء وتجّار مدينة اعزاز، إضافةً لاقتراح الرسوم الفصلية على الطلاب بمعدّل 50 – 100 ليرة تركية على كل طالب خلال الفصل الدراسي الواحد.
ولقيَ الاقتراح الأخير قبولاً بين الوجهاء، واعتراضاً على إمكانية تطبيقه، إذ لا يستطيع معظمُ طلاب المدارس العامة دفع تلك الرسوم إذا اعتبرنا أن معظم الطلاب هم من أبناء الشرطة والجيش الوطني والعمّال والعاطلين عن العمل، ولا يمكن لهذه الشرائح دفع أي رسومٍ على تعليم أطفالهم.
واعترض رئيس المكتب التعليمي على المقترح الأخير بوصفه يخرق نظام التعليم المعمول به، وهو أن التعليم إلزامي ومجاني، ومن واجب المؤسسات الرسمية توفيره من دون مقابل للأطفال.
وبالعودة إلى تعميم المكتب التعليمي في اعزاز الصادر، يوم الخميس الفائت، فإن الصندوق الذي اقتُرح إنشاؤه، ما يزال مجهولاً من حيث مصدر التمويل والإدارة، ولكن مساهمة الوجهاء والتجار هي العنصر الأساسي فيه.
"الكرة في ملعبكم"
"الكرة في ملعبكم".. هذا ما تقوله الأطراف المشتركة في العملية التعليمية عن الآخر في كلٍ منها، فالمكتب التعليمي في "محلي اعزاز" يعتبر أنه قدّم كل الحلول من أجل عودة المعلمين للمدارس، عبر الصندوق التعاوني وإشراك النقابة في عملية الإصلاح التعليمية.
في حين ترى النقابة التي تمثل المعلمين في المنطقة أنها مع أي حلّ يضمن حصول المعلم على حقوقه، منطلقةً من شرعيتها في تمثيل المعلمين، وتضامن الشارع مع مطالبها، خصوصاً بما يتعلق بالمنحِ المالية التي لا ترقى لتكون تعويضاً أسبوعيّاً حسب جميع المؤشرات، وتعتبر النقابة أن الاقتراحات التي قدّمتها للمجالس المحلية تضمن استقلال التعليم واستقراره، وتمكّن المجالس من الإدارة الحقيقية لملفّ التعليم.
أمّا الوجهاء، فيرون أن حلّ مشكلة المنح المالية هو حقّ للمعلم، في ظلّ تجاهل الإدارة التركية لمطالب المعلمين والمجالس بزيادتها، ويعتقدون أن تقديم المساعدات المالية من خلال صندوقٍ تعاونيّ يكفل حقوق المعلم، ويضمن تحقيق مطالبه، بغضّ النظر عن الجوانب الأخرى التقنية التي يمكن أن يحلّها المتخصّصون في التعليم.
بناءً على ما تقدّم، لم تُقدّم الاقتراحات الأخيرة والبيانات والتعميماتُ أي جديد فيما يخصّ إعادة افتتاح الصفوف أمام الطلاب في المنطقة، كون الحلول التي طُرحت لم تبنِ أيّ ثقةٍ بين الأطراف الفاعلة والوسيطة، ولم تقدم أكثر من حلولٍ جزئية تنتهي بنهاية الجلسات التي تُبنى فيها.
"طرف في الحلّ.. جزء من المشكلة!"
في طريقها للحلّ، اصطدمت العمليّة التعليمية بمواقف الأطراف "المحايدة" أو الساعية لإيجادِ مخرجٍ للأزمة، وذلك من خلال بيانٍ لتجمّع أهالي ووجهاء مدينة اعزاز أكّد فيه على حقوق المعلم بالحصول على تعويضاتٍ مناسبة للوضع المعيشي، وضرورة الاعتراف بنقابة المعلمين الاحرار، على أن يتم إعادة انتخابها من جديد.
الصدمة تجلّت في الفقرة الأخيرة من بيان الوجهاء الذي أطلق يدَ المجلس المحلّي في إيجاد حلٍّ للمشكلة، في إشارة لتأييد التعميم القاضي بإيقاف التعويضات المالية للمعلمين غير الملتزمين بالدوام في مدارسهم، وذلك على خلفيّة إعلان نقابة المعلمين الاستمرارَ في الإضراب، صباح الأحد الفائت، لعدم تحقيق مطالبها.
ولقي التعميم استنكاراً واسعاً، بين أوساط المعلمين، وروّاد وسائل التواصل الاجتماعي، الذين طالبوا بتجمّع وجهاءٍ يكون منتخباً قبل تمثيل صوت الأهالي، وقبل الدعوة لإعادة انتخاب شعبة أعزاز في نقابة المعلمين.
هذا البيان جعلَ من تجمّع الوجهاء طرفاً في المشكة، بدلاً من كونه جزءاً من الحل. لكن موقفاً أشدُّ تصعيداً شهدته مدينة الباب، صباح أمس الثلاثاء، حين أ زالت شرطة المدينة، خيمة اعتصام المعلمين التي أقيمت أمام مديرية التربية والتعليم.
نقيب المعلمين، محمد صباح حميدي، دانَ هجوم "شرطة الباب" على خيمة الاعتصام، من خلال شريطٍ مصوّر بثّته "نقابة المعلمين الأحرار – فرع حلب"، واعتبر التصرّف الذي صدر عن المؤسسة "فرديَّاً" لايمثل الجهة التي صدر عنها الفعل.
ومع انتهاء الجولة الأولى من الوساطة التي شاركت بها النقابات والفعاليات الاجتماعية في المنطقة، زادَ الموقفُ تصلّباً، وتباعدت الرؤى، واصطفَّ الطرفان من جديد، استعداداً لجولةٍ جديدة، قد ستكون أكثر تصعيداً.