يعاني قطاع التعليم في الشمال السوري من مشكلات وصعوبات عديدة، وللمعلمين النصيب الأكبر من هذه المعاناة، إذ إنهم يواجهون مأساة حقيقية على عدة أصعدة، أهمها الوضع المادي البائس وعدم وجود جهة تنظيمية فاعلة تضمن حقوقهم وتعزز مكانتهم وتنظم عملهم، مما أجبر بعضهم على الاحتجاج أكثر من مرة، لكن هذه الاحتجاجات لم تفلح في تحسين واقعهم المرير حتى اللحظة.
تُلخص السطور الآتية أبرز مشكلات المعلمين والعوامل التي أسهمت بتدهور أوضاعهم، والحلول المقترحة للارتقاء بواقعهم وتحسين ظروفهم.
أجور زهيدة
يتقاضى المعلمون في الشمال السوري أجوراً زهيدة جداً لا تكفي لدفع إيجار منزل متواضع يُؤوون فيه أطفالهم، حيث يبلغ راتب المعلم 150 دولاراً في المؤسسات الحكومية، ولا يشمل ذلك أشهر الصيف، لذا يكون متوسط الراتب أقل من 100 دولار شهرياً على مدار العام.
أما في القطاع الخاص فالأمور أكثر إجحافاً، حيث يتقاضى المعلم أجر الحصة التي يعطيها فقط، ما يعني أن أي عطلة رسمية تُقرها مديرية التربية مثل الأعياد والمناسبات الرسمية، أو أي عارض صحي يتعرض له المعلم، يتم اقتطاعها من أجره.
هذا الأجر لا يتوافق إطلاقاً مع المهمة السامية التي يقوم بها المعلم، والجهد الكبير الذي يستنزف طاقته وصحته النفسية في صفوف مكتظة يصل عدد طلابها أحياناً إلى خمسين طالباً في الصف الواحد.
بالمقابل، يتقاضى موظفو المنظمات أضعاف هذا الأجر، وقد يبلغ راتب حارس على باب منظمة أكثر من ضعفي راتب معلم يقوم بتدريس 300 طالب، حسبما ذكر عبد الكريم الأشقر (اسم مستعار)، والذي يعمل بالتدريس منذ أكثر من عشرين عاماً.
هذا الواقع المتردي أجبر شريحة واسعة من المعلمين على هجر مهنة التعليم والبحث عن مهنة أُخرى، سواء مهنة حرة أو وظيفة في منظمات وقطاعات أُخرى. وفي استبيان قمت بتوزيعه على 110 أشخاص من خريجي اللغة الإنكليزية، تبين أن 41 شخصاً فقط ما زالوا يعملون في مهنة التعليم ويعانون من ظروف صعبة جداً، بينما هجر 69 معلماً (63%) المهنة إلى غير رجعة.
من المفارقات العجيبة، أنني تلقيت رسالة في أثناء كتابة هذه السطور من معلمة شاركت في الاستبيان تطلب مني أن تضيفني كمرجع في سيرتها الذاتية التي ستتقدم بها لإحدى المنظمات بغرض التوظيف.
عندما سألتها عن سبب تركها مهنة التعليم قالت لي: الظروف صعبة جداً والعمل مرهق والأجر زهيد بينما العمل الذي تقدمت إليه في المنظمة يبلغ أجره ثلاثة أضعاف متوسط أجر المعلم ويمتاز بالسهولة والراحة النفسية والجسدية. وبذلك يُصبح عدد المعلمين الذين هجروا المهنة 70 معلماً وبقي 40 من أصل 110 معلمين شملهم الاستبيان.
اللافت في الأمر أن الفجوة التي يتركها المعلمون يُسند سدّها إلى طلاب الجامعات أو خريجي المعاهد الذين لا يمتلكون خبرة كافية مما ينعكس سلباً على جودة التعليم عموماً. وفي سياق متصل، هناك عزوف كبير من طلاب الجامعات عن الالتحاق بالفروع التعليمية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وبعض الاختصاصات الأدبية بسبب الواقع الأليم للمعلمين الذين يحاولون اجتنابه عبر دراسة اختصاصات تنأى بهم عن هذه المهنة، مما ينذر بأزمة معلمين على المدى البعيد قد نحتاج إلى سنين طوال للتعافي منها.
يُفترض أن تكون نقابة المعلمين خير مُنافح عن المعلمين، وأحرص الناس على صون حقوقهم وضمان وضع اجتماعي ومادي كريم يليق بهم وبمستوى الرسالة الإنسانية التي يحملونها على عاتقهم.
حصانة أوهن من بيت العنكبوت
يقول عبد الكريم الأشقر إن التحدي الأكبر أمام المعلمين يكمن في عدم امتلاك المعلمين لأي نوع من أنواع الحصانة التي تكفل لهم حقوقهم وتصون لهم كرامتهم، حيث تغيب القوانين واللوائح التي تحمي المعلمين وتنظم عملهم وتضمن حقوقهم. ففي حال حدوث أي خلاف بين المعلم والمدرسة أو الطالب يكون المعلم هو الحلقة الأضعف، وغالباً ما يترك المعلمون أماكن عملهم من دون الحصول على كامل مستحقاتهم المالية. ولا يوجد أي نظام داخلي يُجبر المدارس على الالتزام بحقوق المعلمين المعنوية والمادية.
يعاني المعلمون أيضاً من عدم وجود أي تعويضات في حالة إصابة العمل، وعدم وجود تعويض وفاة، ولا تعويض نهاية الخدمة ولا أي نوع من أنواع الحماية المجتمعية، وفي حال حدوث أي طارئ غالباً ما يدفع المعلم الثمن وحده. كما أن المعلمين يشتكون من عدم وجود سُلم رواتب يراعي سنوات الخبرة، والتعويض العائلي، وتعويض التدفئة، والتأمين الصحي للمعلم وعائلته، علماً أن هذه الحقوق من الأساسيات التي يحتاج إليها المعلم، وتلبية هذه الاحتياجات تنعكس إيجاباً على أداء المعلم وبالنتيجة على العملية التعليمية برمتها.
نقابة المعلمين الحاضر الغائب
يُفترض أن تكون نقابة المعلمين خير مُنافح عن المعلمين، وأحرص الناس على صون حقوقهم وضمان وضع اجتماعي ومادي كريم يليق بهم وبمستوى الرسالة الإنسانية التي يحملونها على عاتقهم وبدورهم البارز في بناء المجتمع وتقدم الأمة، لكن واقع الحال مختلف جذرياً.
تنال نقابة المعلمين في إدلب نصيباً كبيراً من انتقادات المعلمين اللاذعة، حيث إنها (بحسب وصفهم) لا تقدم أي خدمات نوعية لهم، ولا تضمن أياً من الحقوق الآنفة الذكر، ولا تتابع أحوالهم ومشكلاتهم، ولا تستجيب لشكاواهم ومطالبهم كما ينبغي.
عندما احتج المعلمون المتقاعدون وخرجوا في مظاهرات يطالبون بتعويضات تكفل لهم حياة كريمة، قامت النقابة لاحقاً بصرف تعويض لمرة واحدة مقداره 50 دولاراً، ثم اقتطعت من المبلغ 15 دولاراً رسوم نقابة ليتبقى 35 دولاراً حصل عليها المعلمون المتقاعدون لمرة واحدة فقط، بحسب رواية أحد المعلمين.
وفيما يخص التأمين الصحي، ذكر مُعلم آخر (فضّل عدم ذكر اسمه) أن النقابة تعاقدت مع طبيبين يقدمان حسماً مقداره 15% من قيمة الكشف الطبي للمعلمين، وبالرغم من أن الحسم هزيل ولا يرقى إلى التطلعات، يتساءل المعلمون كيف لطبيبين أن يقوما بتلبية الاحتياجات الصحية لأكثر من عشرين ألف معلم في المنطقة؟
ينبغي غرس فكرة احترام المعلم وتقديره في المجتمع فهو من يُعلّم أبناءنا ويربّيهم ولا خير في أمّة يُهان فيها المعلّم.
وعورة الطريق لا تعني بالضرورة استحالة الوصول
عندما شرع (لي كوان يو) ببناء سنغافورة على أنقاض جزيرة صغيرة مُقفرة تفتقر إلى أبسط مقومات الدولة، ركّز على بناء الإنسان، وصبّ جُل اهتمامه على التعليم، وعزّز مكانة المعلم، وغيّر مكانته من طبقةٍ بائسةٍ إلى أرقى طبقة في المجتمع، وجعل راتبه من أعلى الرواتب، واشترط ألا يمارس التعليم، إلا من يتقنه باحتراف، وهو ما حقق شروط بناء الأمة.
بعد فترة وجيزة، أصبحت سنغافورة دولة من أرقى دول العالم وتحتل الآن مراكز متقدمة في مختلف المجالات رغم صغر حجمها وتنوع تركيبتها الديمغرافية.
هناك أمثلة عديدة لتجارب تعليمية ناجحة في دول استطاعت تحقيق قفزات نوعية مثل تجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وماليزيا، وألمانيا، حيث كان القاسم المشترك بينها دعم المعلمين وتأهيلهم وإيلاء أهمية قصوى لقطاع التعليم ضمن ميزانياتها.
بالعودة إلى الشمال السوري، تمتلك هذه المنطقة كل مقومات النجاح والتفوق إن وجدت النية الحقيقية والعزيمة الصلبة لبناء مجتمع متماسك، والنهوض بواقع المواطنين على كل الأصعدة. كل ما نحتاج إليه كخطوة أولى أن ينال قطاع التعليم حقه من الرعاية ويحصل المعلم على مكانة تليق به. إن وجدت تلك النية عند المعنيين والقائمين على هذا القطاع سواء حكومات أو منظمات أو جهات داعمة، يجب العمل على عدة نقاط كخطوة أولى تجعل بيئة التعليم بيئة صحية جاذبة للمعلمين تشمل رفع أجور المعلمين وجعل هذه الأجور سنوية بما يشمل فصل الصيف، ووضع نظام داخلي شامل يضمن حقوق المعلمين وينظم آلية التعامل معهم، وإخضاع المعلمين لتدريبات دورية لتحسين مهاراتهم باستمرار وإبقائهم على اطلاع دائم بأحدث طرائق التدريس، ووضع سلم رواتب يكفل تعويض سنوات الخبرة والتقاعد، وتشكيل لجان لتحسين المناهج وتطويرها باستمرار، واشتراط ألا يمارس التعليم إلا من يتقنه باحتراف، وأخيراً وليس آخراً ينبغي غرس فكرة احترام المعلم وتقديره في المجتمع فهو من يُعلّم أبناءنا ويربّيهم ولا خير في أمّة يُهان فيها المعلّم.