تلخص قصة الطفل المغربي ريان (رحمه الله) سطوة الإعلام وعملية إدارة المعلومات وهندسة رأي الشعوب. نعم هي قصة تفطر القلوب وأسأل الله تعالى أن يرحمه ويلهم أهله الصبر، لكن ما حدث إعلامياً يستحق وقفة جدية وتفكيرا عميقا في كيفية حشد رأي الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، فلا تكاد تفتح قناة أو أي تطبيق إلا وستظهر أخبار ريان وصورته أمامك…
في الوقت نفسه الذي كنت تشاهد فيه التركيز الإعلامي الهائل على عمليات الحفر، كان هناك طفل سوري اسمه فواز قطيفان (عمره من عمر ريان تقريباً) مختطف منذ ٢ تشرين الثاني (نوفمبر)، والخاطفون يقومون بتعذيبه وإرسال مقاطع تعذيب وحشية تفطر القلب وتدمي العين لأمه في مشهد وحشي وحادثة مأساوية لا تسعفني الكلمات في وصفها، وعلى الرغم من أن أهل الطفل يوجهون المناشدات عبر مواقع التواصل بشكل يومي فإن قصته لم تصل إلى الشعب العربي من المحيط إلى الخليج كما حصل مع الطفل ريان. وفي نفس الوقت أيضاً (خلال عمليات الحفر) قُتل ٦ أطفال في سوريا وملأت أشلاؤهم المنزل، وغيرهم ممن تجمّد ومات من البرد في الخيام. لماذا لم نسمع هذا الزخم الإعلامي والاستنفار العاطفي؟ أليسوا أطفالاً مثل ريان رحمه الله؟ طبعاً هذا بالإضافة إلى الأطفال الذين يموتون يومياً في وطننا العربي نتيجة الفقر والجهل وحوادث السير ونقص الرعاية والخدمات وتظل قصصهم الموجعة طي الكتمان. إذاً هناك إرادة مسبقة وقدرة على توجيه المعلومات للناس وتجييش مشاعرهم في وقت محدد ونحو حادثة معينة. طبعاً أتكلم هنا على التدفق المعرفي المدروس ولم أتناول المتاجرة الرخيصة من قبل بعض الصفحات التي تلهث وراء حفنة من الإعجابات والتعليقات.
هذا التسطيح في التفكير ليس اعتباطياً. فكم من فيديو تافه شاهده الملايين بينما تجد فيديو علمياً قد يحظى بمشاهدته عدد محدود جداً فقط؟
وبعيداً عن قصتي فواز قطيفان وريان اللتين فطرتا قلوبنا جميعاً وبرهنتا أن الشعب العربي حي ويتفاعل ويتضامن مع أي حدث محزن ويعتبره قضيته، إذا تفكرت للحظة في الكم الهائل من الإعلانات والمناشير والفيديوهات التافهة التي تظهر أمامك بالمقارنة مع ندرة ظهور المواد القيمية العلمية والمعرفية فستدرك حتماً أن هذا التسطيح في التفكير ليس اعتباطياً. فكم من فيديو تافه شاهده الملايين بينما تجد فيديو علمياً قد يحظى بمشاهدته عدد محدود جداً فقط؟ هذا بالإضافة إلى تقييد (وأحياناً حذف) مناشير بعض الناشطين وأصحاب المشاريع الفكرية أو التجارية الكبيرة.
بالنظر إلى أن جميع تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تكتظ بها جوالاتنا هي أجنبية ولا نملك من أمرها شيئاً، فمن الطبيعي أن يتحكم أصحابها ومن ورائهم بما يجب أن تراه وما يجب أن يحجب عنك. وللتغلب على ذلك، يجب علينا تطوير طرق بديلة (على سبيل المثال إطلاق منصة عربية) قادرة على قهر امبراطوريات المعلومات وتوفير البدائل الآمنة، وذلك ليس حلماً بعيد المنال، فكلنا رأينا بأم العين كيف أن أي حملة مقاطعة في السابق كانت تتسبب بخسائر فادحة للمستهدفين (وآخرها حملة مقاطعة فيس بوك وكارفور).
نعم هو صراع معرفي معلوماتي خطير أتمنى أن نمسك بمفاتيحه يوماً ما، أو على الأقل نكون جزءاً منه لنضمن أن ما نشاهده وأطفالنا يعود بالنفع علينا وعليهم، ويسهم في بناء جيل يعي جيداً ما يرى ويسمع ويتصدى لكل محاولات العبث بمستقبل أبنائنا.