بعد ساعات طويلة من المشاورات مع رؤساء حكومات الولايات الألمانية، والتي امتدت حتى وقت متأخر من الليل، لاتخاذ قرار حول الإجراءات المقبلة للتعامل مع أزمة كورونا، أعلنت المستشارة الألمانية ميركل، عن إغلاق شبه كامل في البلاد خلال ثلاثة أسابيع مقبلة، وعندما توجهت انتقادات إلى قرار الإغلاق على خلفية شموله أيام عيد الفصح، وقفت المستشارة ميركل في اليوم التالي في البرلمان الألماني البوندستاغ لتعترف بخطئها، قائلة: (الخطأ يجب تسميته خطأً، وأنا أتحمل المسؤولية عنه وأطلب الصفح)، ليتم الإعلان عن تخفيف إجراءات الإغلاق خلال أيام الأعياد، التي تعد فرصة نادرة للمواطنين للالتقاء والتجمع.
لم يكن خطأ المستشارة الألمانية ميركل قاتلاً وربما لم يكن خطأً أصلاً، ليس مقارنةً بما اعتدنا مشاهدته في بلدان أُخرى من جرائم حكام بحق شعوبهم فحسب، بل من ناحية النتائج غير المؤكدة للإغلاق أو تخفيف القيود، فهي لو مضت في قرارها في الإغلاق التام؛ لربما كان ذلك أفضل من تخفيف القيود، لكن الاعتراضات على القرار الذي يحمل توقيعها ويحرم الأقارب والأصدقاء من التجمع، جعله يبدو قراراً انفرادياً، وجعلها تبدو وكأنها وحدها في مواجهة الجميع، هذا رغم الانقسام في جلسة التشاور الذي أُتخذ فيها القرار، وكذلك في المجتمع الألماني بشأن الإجراءات الأصلح للوقاية من فيروس كورونا.
رغم قيادة السيدة ميركل ألمانيا بنجاح خلال الخمس عشرة سنة الماضية خلال أوقات عصيبة، وتمكنها من تجاوز أزمات كبيرة عصفت بالاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية الموحدة، منها قضية خروج بريطانيا من الاتحاد، والحوافز المالية المقدمة إلى اليونان لإبقائها فيه، بالإضافة إلى أزمات داخلية غير مسبوقة، وعلى رأسها موجة اللجوء التي توجهت إلى أوروبا عام 2015 والتي استقبلت ألمانيا خلالها مئات الآلاف من اللاجئين، وأخيراً أزمة فيروس الكورونا، التي تعاملت معها بنجاح خلال عام كامل، إلا أن كل ذلك لم يغفر لها هفوتها الصغيرة في النهاية، فقد بدأت تطرح على بساط البحث مسألة مستقبلها السياسي خلال الأشهر القليلة المتبقية من ولايتها الرابعة، والتي ستتقاعد بعدها على كل حال، بعد أن استقالت من قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي، وتم انتخاب خليفة لها.
إن مقارنة ما يجري في ألمانيا هذه الأيام، مع سلوك الحكام في الشرق الأوسط والعالم العربي خصوصاً، سيكشف عن نوع من الكوميديا السوداء
بدأ خطأ المستشارة ميركل يكبر مثل كُرة الثلج، رغم أنه لم يتسبب في قتل أحد أو الإضرار بأحد، ورغم أنه تم التراجع عنه بعد ساعات قبل أن يجري تنفيذه، وأصبحت هناك مطالبات بطرح سياساتها على التصويت في البرلمان، وأصبح الساسة الألمان والصحافة الألمانية يتساءلون عما إذا كان ينبغي إجراء انتخابات مبكرة في البلاد، عن الخليفة المحتمل لميركل، رغم أن موعد الانتخابات الاعتيادية سيكون في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وبدأت الصحافة تجري مراجعة لسياساتها، وتقوم بعملية تجميع للأخطاء التي يمكن أن تكون ارتكبتها وتضعها تحت المجهر، ولسوء الحظ يجري ذلك بالتزامن مع ما بات يعرف في ألمانيا بفضيحة الكمامات، حيث تدور الشكوك حول تلقي مقربين من حزبها عمولات مالية، مقابل صفقات بيع الكمامات إلى مشافٍ ألمانية، الأمر الذي أفقد التحالف الذي تقوده بعض شعبيته.
إن مقارنة ما يجري في ألمانيا هذه الأيام، مع سلوك الحكام في الشرق الأوسط والعالم العربي خصوصاً، سيكشف عن نوع من الكوميديا السوداء. في سوريا على سبيل المثال، لم يترك نظام الأسد وسيلة قتل وتعذيب وقمع إلا واستخدمها بحق المدنيين السوريين، المنتفضين على قبضته الحديدية، ورغم ذلك تجري الأمور بعد تهجير النظام ملايين السوريين، وتدمير بلادهم بالأسلحة الثقيلة والبراميل المتفجرة وكأن شيئاً لم يكن، إذ لا قبول لصوت معارض ولا اعتراف بالخطأ، لا اعتذار ولا تعويض، بل متابعة التشبث بالكُرسي، حتى لو فني ما تبقى من الشعب، الذي يعيش مجاعة حقيقية.