تتحدّى الدولة بنية المجتمعات التراحمية، فقد غيّرت عند قيامها في العصر الحديث، أسس التنظيم القديم القائم على العلاقات الوشائجية، أي علاقات القبيلة والعشيرة والأسرة، حيث يكاد يعرف الجميع بعضهم البعض، وأحلّت مكانها علاقات جديدة قائمة على التعاقد المُفترض بين أفراد أحرار - لا يعرفون بعضهم بالضرورة لأنهم من منابت ومناطق مختلفة - تتأتّى حريتهم من قدرتهم على بيع قوّة عملهم.
فبعد أن كان البشر محكومين على مدى آلاف السنين بقوانين الجبر والإكراه كعبيد وسادة، كفلاحين وأقنان وملّاك للأراضي، جاءت الصناعة لتحررهم وتجعل من قوّة عملهم بضاعة مطلوبة وقابلة للتداول. هنا بدأت الخطوة الكبيرة للإنسانية نحو المساواة، وإن كانت قد احتاجت مئتي عامٍ وأكثر لتصل إلى معايير شبه مستقرّة لقياسها. وهي بطبيعة الحال سيرورة متواصلة لم تتوقف ولن تقف عند حدّ.
مع الدولة بدأ الأفرادُ ينظرون إلى ذواتهم، يتفحّصون مواقعهم في سلّم الهرم الاجتماعي، يقارنون أنفسهم بأقرانهم البشر، وبدأوا يتساءلون عن أسباب الفوارق في الحقوق والواجبات. ولأنّ الدولة كيان جامعٌ للأفراد وفق معيار انتمائهم إلى هذا الكيان لا لغيره، سواء أكانت قبيلة أم عشيرة أم أسرة، فإنها تفترض فيهم من حيث المبدأ المساواة بالمكانة أمام منظومتها القانونية. وهذا ما جعل من المساواة قيمة عليا قابلة للتحقق، ضمن إطار الوطن والانتماء إليه، وضمن حدود سيادة الدولة واحتوائها لجميع مواطنيها.
هنا يصبح التوزّع أفقياً على طبقات اجتماعية متفاوتة من الناحية الاقتصادية أمراً مقبولاً. ويصبح بالمقابل سعي الأفراد للانتقال من الطبقات الدنيا في السلم والارتقاء إلى الطبقات العليا هدفاً مشروعاً، يتوقف على جهدهم واندماجهم في منظومة هذه الدورة الاقتصادية الاجتماعية المتكاملة.
المساواةُ في الحقوق والوجبات أمرٌ أساسي في بنية الدولة، حتى وإن كانت هذه المساواة قد تطوّرت عبر القرون لتأخذ شكلها الراهن
لكنّ الدولة بما هي جهازٌ شامل لأدوات التنظيم السياسي والاقتصادي والمجتمعي، لا يمكنها أن تقبل التفاوت في كلّ شيء، وإلا ناقضت أسباب قيامها. فالمساواةُ في الحقوق والوجبات أمرٌ أساسي في بنية الدولة، حتى وإن كانت هذه المساواة قد تطوّرت عبر القرون لتأخذ شكلها الراهن.
عندما كتب الأميركيون دستور بلادهم عام 1787، كانوا قد أدركوا جيداً معنى الاستقلال كتعبيرٍ عن قيمة الحرية بعد انتصارهم القريب في حرب التحرير، لكنهم لم يكونوا قد وصلوا إلى وجوب المساواة بين مواطنيهم، وكان عليهم أن ينتظروا طويلاً حتى يتم إلغاء العبوديّة والرق رسمياً بموجب التعديل الثالث عشر للدستور، الذي وقّعه الرئيس أبراهام لنكولن في 14 نيسان عام 1865، وقبل اغتياله بأيام قليلة.
وعندما حاولت الدولة الشمولية في عهد الشيوعية فرض المساواة - نظرياً – كقيمة مطلقة حتى على المستوى الاقتصادي، من خلال تنميط المواطنين ضمن إطار الوظيفة العامة كأفراد متساوين رغم اختلاف كفاءاتهم، فشلت فشلاً ذريعاً، لأنها ببساطة صادرت على المطلوب ووضعت العربة أمام الحصان. فليس بالإمكان الوصول بالمجتمع البشري – ضمن المنظومة القيمية والأخلاقية الراهنة على الأقل – إلى تطبيق شعار الشيوعيين الأكثر تعبيراً عن العدالة الاجتماعية من وجهة نظرهم، القائل: "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب حاجته"، فهذا الأمر ما زال مثالياً حتى الآن، فقد أثبتت التجربة أنّ حبّ التملّك أقرب للغريزة عند البشر، وأنّ من شأن التطبيق غير السليم للمبادئ في مجتمعات غير مؤهلة، أن يربك النظام الاجتماعي.
لقد أبدع التطبيق العملي لمبدأ العدالة الاجتماعية في الدول الشيوعية بتنفير الناس من العمل، وبقتل الحوافز وخنق المبدعين، فما الفائدة من الإبداع والإنتاج إن كانت الملكية الخاصة محرّمة بالقانون، وماذا سيجني الفرد من زيادة الإنتاج غير وسام يُعلّق على صدره، لا يسمنه ولا يُغنيه من جوع؟
لمساواة لا تكتمل إلا بالعدالة، فالمواطنون الخاضعون لقانون عقوبات واحد وقانون إجراءات جنائية واحد، غير متساوين إن كانت العدالة الجنائية غير مجانية على سبيل المثال
بالمقابل فإنّ المساواة لا تكتمل إلا بالعدالة، فالمواطنون الخاضعون لقانون عقوبات واحد وقانون إجراءات جنائية واحد، غير متساوين إن كانت العدالة الجنائية غير مجانية على سبيل المثال. لأنه يمكن للغني أن يتمتع بخدمات المنظومة القضائية، وأن يستفيد من قاعدة التقاضي على درجات ومن حق توكيل محامٍ وأكثر، بينما لا يمكن للفقير ذلك. وإذا كان القانون ينصّ على حق جميع المواطنين بالتعليم المجاني، لكنّه لا يوفر للمجتمعات الريفية والنائية فرص الحصول على الأبنية المدرسية وتجهيزاتها مثل مراكز المدن، فإنّ المساواة منعدمة بينهم رغم تساوي مراكزهم القانونية.
والعدالة قيمة بحدّ ذاتها، ليس فقط في الالتزامات أمام القانون، بل في تكافؤ الفرص وفي التوزيع العادل للثروات. والعدالة في الدولة الحديثة لا توجد من دون المساواة أيضاً، فالهيكل الذي تُبنى عليه الدولة هو المساواة، بينما تأتي العدالة لتكسي هذا البناء وتعطيه جماله ورونقه، إضافة لإمكانية الاستفادة منه على الوجه الأكمل.
تعزز قيمتا المساواة والعدالة الهويّة المشتركة للمواطنين، لأنّهما تخلقان شعوراً بأنّ المواطنة – بما هي تعاقد أفرادٍ أحرار على المشتركات بينهم – تستمد شرعيتها من هاتين القيمتين، فهما معقولتان ومقبولتان جداً وتبدوان طبيعيّتين ولا تحتاجان لإثبات أو دفاع، بينما تحتاج معارضتهما لدفاعٍ وتبرير وأدلّة وبراهين. وعلى العكس من ذلك، فإنّ عدم تحقق المساواة والعدل في مجتمع دولة المواطنة، سيهدد بالضرورة قيماً أخرى كالوحدة الوطنية.
إنّ معيار المفاضلة بين المواطنين هو احترامهم للعقد الاجتماعي المتوافق عليه بينهم، فمن التزم به عُدَّ مواطناً صالحاً، ومن خرقه اعتُبر خارجاً عن قيم المجتمع، واستحقّ بالتالي الجزاء المناسب، سواءٌ أكان أخلاقياً أم اجتماعياً أم وصل إلى حد إنزال العقاب الجزائي.
وهذه القيم ليست مطلقةً، بل هي نسبية، وتاريخ الرق والعبودية وتاريخ الإقطاع والقنانة أكبر دليل على ذلك. كما أنها لم تكن دوماً مُعطى جاهزا ثابتا لا يتغيّر، بل تطوّرت عبر الزمن واختلفت من مجتمع لآخر. فما تتمتع به المرأة مثلاً هذه الأيام من حقوق، ما كان بالإمكان تصوّره بأي حال من الأحوال في العصور الوسطى أو في الحضارات القديمة. لقد تطوّرت هذه القيم بشكل هائل مع نشوء الدولة، ثم تعززت إثر الثورة الصناعية، وقفزت إلى مصافّ راقية جداً مع التقدّم العلمي والتكنولوجي وثورة المعلوماتية الراهنة.
تقوم الدولة على مبدأ المواطنة، وهذه الأخيرة هي التي تؤسس الحقوق، وتفكك الأساطير المؤسسة للبنى الاجتماعية التي كانت سائدة ما قبل عصر الدولة، ومن بينها قيمُ التفاوت على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو اللون.
وفي بلادنا العربية، كان لفشل بناء الدولة أثرٌ كبيرٌ في انقسام المجتمعات إلى بُنى طائفية متخيّلة، عززتها مقاومة أنظمة الحكم لثورات الربيع العربي، فكانت النتائج وبالاً على الدول ذاتها وعلى المجتمعات والهويات الوطنية. ففي هذه المجتمعات التي لم تستطع الدولة أن تخرجها كلياً من إسار المجتمعات التراحمية، لأنها لم تُبنَ أساساً على قواعد المواطنة التي في القلب منها المساواة والعدالة، عادت العلاقات الوشائجية من جديد على جناح الطائفية العابرة للقبائل والعشائر، فترسّخت مفهوماً جديداً لاصطفافات تستلهم الماضي لتغيّر الحاضر وتبني المستقبل.
أصبحت الشيعية السياسية طائفة متخيلة تجمع الحوثيين من اليمن إلى أتباع حزب الله في لبنان مروراً بعقد فريد من البحرين إلى الكويت فالعراق فسوريا
هكذا أصبحت الشيعية السياسية طائفة متخيلة تجمع الحوثيين من اليمن إلى أتباع حزب الله في لبنان مروراً بعقد فريد من البحرين إلى الكويت فالعراق فسوريا. وبات من الواضح الآن أنّ السنّة في المشرق العربي – تحت وقع الظلم الفادح الذي يستشعرونه موجهاً ضدهم من الداخل والخارج - أخذوا يتقبّلون بل ويعملون على بناء طائفتهم المتخيلة، بعد أن كانوا ينظرون إلى أنفسهم على مدار الأربعة عشر قرناً الماضية وكأنهم الأمّة الإسلامية.
سيكون على رأس أولويات الأجيال القادمة إعادة الاعتبار لقيم المواطنة، وبغير ذلك لن يتحقق التغيير والدخول في الحداثة. وبعد أن ثبت لنا فشل طرق التغيير الجذري والصادم المتمثّل بالثورات، بات علينا أن نفكّر ملياً بطرائق التغيير التدريجي، وانتظار التراكم الكمي البطيء، علّه ينتج لنا كيفاً جديداً متأثراً بما وصلته البشرية من تطوّر وتقدم في القيم والمفاهيم، لا بالصناعة والتكنولوجيا فقط. وإلى أن يأتي ذلك الحين، علينا العمل بصبر وأناة ومثابرة، لا مجرّد الصمت بانتظار قدوم غودو.