يقف "جهاد العبدو" (47 عاماً) وسط بستانه في مدينة أريحا التابعة لمنطقة جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي، ويتأمل في "أشجار المحلب" التي كانت مليئة قبل أيام، ليراها خاويةً من ثمارها بعد جني محصوله وبيعه بثمن رخيص جداً، لتراكم المحاصيل هذا العام في الشمال السوري، وعدم تصديره إلى دول الجوار ولا سيما دولة "السودان" التي تشهد حرباً منذ مطلع العام الجاري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ويُعتبر "المحلب" من الأشجار المثمرة، ومن أهم الأشجار التي تستعمل كأصول لتطعيم اللوزيات وبخاصة الكرز، ويتركز موطنه الأصلي في سوريا وتحديداً في منطقة جبل الزاوية جنوبي محافظة إدلب، ويتخذه السكان مصدر رزق لهم منذ سنوات، وتقتصر مهامهم في حراسة حقولهم ومتابعة أشجارهم التي تبلغ أعمار بعضها عشرات السنين.
الموسم الأسوأ منذ 10 سنوات
يصف "العبدو" في حديثه لتلفزيون سوريا أن موسم المحلب هذا العام هو الأسوأ منذ أكثر من 10 سنوات، مشيراً إلى أن جميع أصحاب البساتين لم يستطيعوا أن يجمعوا أجور العمال بسبب غلاء المبيدات الحشرية، ورخص ثمن المحلب في الأسواق بسبب تراكمه وتوقف تصديره إلى الخارج وتحديداً إلى السودان، مشيراً أن كيلو المحلب بلغ سعره هذا الموسم 18 ليرة تركية ما يعادل (0.76 دولار)، أما الموسم الماضي فقد كان سعره بدولارين ودولارين ونصف.
ويقول: "لا أصدق ما جرى لهذا الرزق، فأنا أنتظر الموسم سنوياً لكي أعيش منه على مدار السنة، واليوم ما حصدناه لا يكفينا شهرا تقريباً .. العام الماضي وصل ثمن الربح من الموسم ما يزيد عن 5 آلاف دولار واليوم لا تتجاوز 350 دولارا".
يؤكد فهد أبو صطيف وهو تاجر في منطقة أريحا شمالي إدلب، أن كميات كبيرة وصلتنا هذا العام من المحلب، وباتت هذه الثمار متوافرة بكثرة لدى التجار، بسبب توقف التصدير إلى أوكرانيا سابقاً والسودان مجدداً.
وأضاف في حديثه لتلفزيون سوريا: "سنوياً يتم تصدير قرابة 80 بالمئة من إنتاج المحلب في منطقة جبل الزاوية إلى دولة السودان وبأسعار تصل إلى دولارين ونصف.
وأشار إلى أن إنتاج السوق المحلي في شمال سوريا لا يتجاوز الـ4 بالمئة بشكل تقديري من محصول كل موسم.
وأوضح أن التاجر لم يعد لديه القدرة اليوم على تخزين كميات كبيرة من المحاصيل، بسبب غلاء متطلبات التخزين وعدم استقرار العملة التركية وتخوم مستودعاتنا ومحالنا التجارية من مناطق التماس مع النظام السوري، لافتاً إلى أن عددا قليلا من التجار ينتظرون وضوح أحداث "السودان" ويتابعون أخبارها، متأملين أن تنطفئ شرارة المعارك في تلك البلاد وتعود الحياة إلى طبيعتها.
ومنذ 15 نسيان الماضي، يشهد السودان اشتباكات بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم ومدن أخرى، وسط تبادل الطرفان اتهامات حول مسؤولية كل منهما عن بدء الهجوم على مقار تابعة للآخر، بالإضافة إلى ادعاءات بالسيطرة على مواقع تخصهما.
شجرة المحلب كـ"الطفل"
يشبه قيس السلوم (62 عاماً) أشجار المحلب في بستانه بالأطفال، ويقول إن شجرة المحلب تحتاج إلى عناية فائقة حتى تكبر وتثمر. "نربّيها كما نربي الأطفال، ونهتم بها ونجنبها من أن تصاب من أي مرض، لكي نحصل على ثمارٍ وفيرة في نهاية الموسم".
يصف "السلوم" المُغرم ببستانه أن شجرة المحلب هي "شجرة الحياة" لمالكها، ويشير بيده قائلاً: "هذه الأشجار كلها غرسناها أنا وأبنائي الأربعة وقمنا برعايتها وما زلنا، وها هي اليوم صامدة بين الصخور تتحمل الحر والثلج.
قطاف المحلب
يروي "نايف القدور" (39 عاماً) المهجر من بلدة البارة جنوبي إدلب، لتلفزيون سوريا طرق قطاف محصول المحلب، ويقول: "في البداية؛ يقوم المزارع بمد شوادر تحت كل شجرة ويقوم بقطافه ومن ثم يتم تعبئة الثمار في أكياس ويذهب للسوق بشكل مباشر، ويقوم ببيعه وهنا نسمي هذا المزارع بأنه قام ببيع محصوله وهو "أخضر"، وهؤلاء الأشخاص عادةً يكونون من أصحاب الحقول الصغيرة"، مشيراً إلى أن هذه العملية ليست مربحة.
وأضاف: "هنالك بعض المزارعين يقومون بجني محصولهم ونشره على أسطحة منازلهم بهدف تجفيفه (التيبيس) وتستمر هذه العملية قرابة 10 أيام، وبعدها يقوم المزارع بدق الثمار بوساطة عصي، بهدف فصل نواة المحلب عن العيدان والأوراق والقشرة. ومن ثم يتم فرزه بالغربال، وبهذه العملية؛ تسقط الحبوب النظيفة تحت الغربال، وهنا يكون المزارع قد وصل لنواة هذه الحبوب، وبعد الغربلة يقوم الفلاح ببيع المحصول، وهي عملية مربحة.
وتستخدم ثمار المحلب كمنكهات للأطعمة لا سيما المعجنات والحلويات، ويستعمل لإعداد الخبز ويدخل في صناعة التوابل، كما أن ثمار المحلب تدخل في صناعة الأدوية والطب البديل كمقوي للأمراض الحسية وفي علاج الربو وتخفيف لبعض الآلام منها الاضطرابات المعوية، ويساعد المحلب على عملية الهضم عندما يتم تناوله بكميات قليلة.
ما الحلول؟
يرى تاجر الحبوب علي عبد الرحيم أن خسارة مزارعي بساتين المحلب لهذا العام قد تدفعهم لاستبدال أشجارهم وتطعيمها، لا سيما أن أرض جبل الزاوية التي تتميز بحرّها صيفاً وبرودتها وثلوجها شتاءً، تُتيح لهؤلاء المزراعين الفرصة لزراعات أخرى أبرزها الكرز، وهي فاكهة محافظة على سوقها المحلي وتتحلى بثبات سعرها سنوياً.
وأكّد عبد الرحيم في حديثه لتفزيون سوريا، على أن الزراعة "المحلب" تحديداً تعتمد بشكل رئيسي على التصدير إلى الخارج، وأن الاستهلاك المحلي لهذه المنتجات لا يتجاوز الـ 10 بالمئة من الإنتاج في أحسن حال، بينما يُصدر باقي الإنتاج إلى الأقطار العربية والأجنبية عبر تركيا.
وبحسب دراسة نشرها مركز السياسات وبحوث العمليات "opc" فإن الجفاف، وسوء إدارة القطاع الزراعي والموارد المائية، و12 عاما من الحرب، جميعها عوامل خلقت وستخلق مزيدا من التداعيات الاقتصادية السلبية، فيما تتجلى تلك التداعيات في عدة أشكال، أبرزها "استمرار انحسار صادرات البلد التي تركزت معظمها في قطاع الزراعة خلال العقد الأخير".
ويعيش سكان شمال سوريا أوضاعاً إنسانية في غاية الصعوبة، من جراء شح الدعم المقدم من قبل المنظمات أو الجمعيات الخيرية والإغاثية، بسبب تزايد أعداد النازحين من جراء الحملات العسكرية لنظام الأسد وروسيا على مناطق ريف إدلب وحلب في الآونة الأخيرة، والسيطرة على عشرات المدن والبلدات والقرى.