يقول (John Adams) "الدستور هو راية، هو نُصُب، هو وشيجة، ويُصدَّق عليه، ويكون عزيزاً على القلوب، ولكن من دون هذا التفكير والتعلق فإنه يكون عبارة عن طائرة ورقية، أو بالوناً يطير في الهواء".
وعلَّمَنا التاريخ أنه في الدستور لا تنتصر فئة مجتمعية على أخرى، فإما أن ينتصر الشعب كله، ويكتب دستوراً يحميه، ويعيد له حقه الذي سلب منه، ويحمي حقوق أبنائه، أو يهزم كله، فلا حلَّ وسطاً للدساتير.
على من يريد كتابتها أن يتعلم منها أنها تتسع للجميع، وإن لم تستطع فعل ذلك وتم فرضها بالقوة فستنتحر، وأمّا إن كانت في طور الاقتراح فإنها تولد ميتة.
بعد أن استعرضنا في المقال السابق الحقوق والحريات في مقترح دستور 2024 الصادر عن المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية، سنعمد في هذا المقال إلى تحليل المبادئ الأساسية التي وردت في الفصل الثاني من المقترح ذاته.
أولاً: شكل الدولة فيدرالي
نصَّ مقترح الدستور على تغيير شكل الدولة في المادة 38 تعتمد فيه سوريا النظام الفيدرالي، وهذه جهالة واضحة فالفيدرالية ليست نظاماً سياسياً، ولا تدخُلُ ضمن تصنيفات الأنظمة السياسية، إنما تدخل ضمن أنواع شكل الدول، فكان النص المادة 32 كافياً لتحديد شكل الدولة.
أورد واضعو مقترح الدستور مبرراً في مقدمة الدستور لتغيير شكل الدولة من موحدة إلى فيدرالية، قولهم: "إن الفيدرالية كإدارة جغرافية تعطي الوطن مزيداً من القوة"، والحقيقة من جملة دوافع التحول نحو الفيدرالية العاملُ الجغرافي وهو ينطبق على الدول ذات المساحات الواسعة مثل كندا حيث كان اتساع المساحة دافعاً نحو الفيدرالية، وهو غير متوفر في سوريا، أما كون الفيدرالية تعطي مزيداً من القوة فهذا الكلام صحيح بالنسبة للدولة القادمة من التفكك، يعطيها قوة اقتصادية وعسكرية (أميركا)، وأما بالنسبة للدولة الموحدة مثل سوريا فحين تتحول إلى الفيدرالية، فإن هذا التحول يمكن أن يضعفها اقتصادياً وعسكرياً وإن لم يفعل ذلك فهو لا يزيدها قوة.
أما ما يعزز المواطنة والانتماء عوامل عديدة ليس من بينها شكل الدولة، فالدول بمقدار ما تمنح مواطنيها من حقوق وحريات وتأمين سبل العيش الكريم فإن المواطنة تغدو معززة، فلا يستطيع أحد أن يقول إن انتماء المواطن الإثيوبي المنتمي إلى دولة فيدرالية هو أعلى من انتماء المواطن السويدي، وذات الأمر بالنسبة لتعزيز المشاركة السياسية التي لها عوامل عديدة لزيادتها بالتأكيد، ليس من بينها شكل الدولة، وإلا كيف نفسر تدني المشاركة السياسية في العراق الفيدرالي؟!
إن الدوافع عسكرية واقتصادية، هذان الدافعان لا يصلحان البتة في أن يكونا سبباً لتحول دولة موحدة بسيطة إلى دولة فدرالية.
وآخر دوافعهم للفيدرالية منع تمركز الدكتاتورية، والحقيقة العلمية الواضحة للعيان أن شكل الدولة ليس له علاقة بالدكتاتورية وتشكلها، لأن هذا منوط بشكل النظام السياسي والسلطات الممنوحة للرئيس، والتي تشكل تغولاً على باقي السلطات، يعني على فرض سوريا فيدرالية في ظل نظام رئاسي أو شبه رئاسي فهذا يعني إعادة إنتاج الدكتاتور.
ما نريد قوله في هذا الشأن إننا لا نحتاج لاختراع العجلة، ببساطة دعونا نتعرف إلى دوافع الفيدرالية عند الدول على مر التاريخ، فهل من بينها دافع يصلح لسوريا؟!
إن الدوافع عسكرية واقتصادية، هذان الدافعان لا يصلحان البتة في أن يكونا سبباً لتحول دولة موحدة بسيطة إلى دولة فيدرالية، هذا السبب موجود عند الدول التي كانت مفككة ونشأت الفيدرالية لديها بالانضمام أو الاتحاد مثل سويسرا والولايات المتحدة الأميركية.
وهناك العامل الجغرافي حيث تؤدي المساحة الواسعة إلى اختيار الفيدرالية مثل الهند وكندا والأرجنتين وإندونيسيا. وهناك العوامل السياسية وتنطبق عندما تكون الدولة كونفدرالية وتتحول إلى الفيدرالية.
وأخيراً عامل التنوع داخل المجتمع، فإن مشكلة التنوع تثور عندما يتغلب الانتماء القومي أو الطائفي أو الديني على الانتماء الوطني (للدولة) سواء من قبل الأقلية أو الأكثرية، فيلجأ البعض إلى الاتحاد الفيدرالي، لأنه يعتبره نظاماً مثالياً للدولة الحامية لجميع حقوق المجتمع التعددي.
إذا كان الدافع هو التنوع في المجتمع لقيام الفيدرالية السورية، فهذا يتطلب نتيجة حتمية عنه أن تقوم الفيدرالية العرقية، وليست الجغرافيّة، بمعنى أن تقسم الأقاليم في الفيدرالية السورية بحسب العرق أو الديانة أو المذهب الذي ينتمي إليه سكان الإقليم كنتيجة تحقق أهداف الدافع لقيام الفيدرالية مثلما حصل في العراق.
إن أيّة دراسة للجغرافية البشرية السورية وتوزع السكان ستعطينا خريطة توضح بأنه لا يمكن إقامة فيدرالية في سوريا على أساس طائفي أو عرقي.
بعد هذا الاستعراض لا يوجد لدى السوريين دافع واحد من دوافع الفيدرالية، إنما هو الاستنساخ والتقليد، وإن ما تحتاجه سوريا المستقبل، هو لا مركزية إدارية فاعلة في الأطراف وتمتلك من الصلاحيات ما يؤهلها لتحقيق الأهداف المحلية.
دساتير الدولة السورية منذ تأسيسها ألحقت صفة العروبة بالدولة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ثانياً: اسم الدولة
إن اسم الدولة السورية المعتمد حالياً في دستور الدولة والمحافل الدولية "الجمهورية العربية السورية" هو من المواضيع الخلافية بين السوريين، بغض النظر عن حجم كل فئة من الفئتين، لذلك فإن الدخول في هذا الخلاف يجب أن يكون مبنياً على العلم والإرادة والصدق، لأنك إن دخلت هذا المعترك من دون الأسلحة الثلاثة فسيكون تأكيداً لوجهة نظرك فقط، من دون ترك تأثير على الفئة المخالفة لرأيك.
وهكذا فعل المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية عندما تعمّد تسمية الدولة "سوريا" فقط، وكأنه يخبرنا بوجهة نظره ويغادر، أو كأن السوريين جميعاً متوافقون على هذه التسمية، وهذا خلاف الواقع.
في حين كان يجب عليه بيان الأسباب الموجبة للتغيير، لأن دساتير الدولة السورية منذ تأسيسها ألحقت صفة العروبة بالدولة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد نصت المادة الأولى من دستور تأسيس الدولة السورية لعام 1920 على تسمية الدولة بالمملكة السورية العربية. والدستور الوحيد الذي سمى الدولة "سوريا" ولم يتطرق لعروبة الدولة هو دستور الاستعمار الفرنسي الصادر عن المفوض الفرنسي هنري بونسو في 12/5/1930، وبعضهم يدلل على دستور عام 1950 الذي سمى الدولة "الجمهورية السورية"، لكنه نصَّ في مادته الأولى على أنّ "سوريا جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة"، وأكد في الفقرة الثالثة على أن الشعب السوري جزء من الأمة العربية. ودستور 1953 كرر الأمر ذاته.
ومنذ دستور الوحدة لعام 1958 تم تقديم كلمة العربية على السورية، وتابعت على المنوال ذاته جميع الدساتير اللاحقة المؤقتة والدائمة.
هذا الاستعراض التاريخي ليست غايته تأكيد وجهة نظر على حساب الأخرى، لكن من أجل الوعي الدستوري بحجم التغيير من جهة، ومن جهة ثانية إلزام الجهة التي تقترح التغيير بالأسباب الموجبة.
مع ذلك نستطيع أن نتفهم التغيير تحت ذريعة "حيادية الدولة" حيال جميع مواطنيها من دون انحياز لفئة أو قومية، وحتى يشعر جميع مواطنوها بالانتماء إليها.
والحقيقة أن هذا الأمر يمكن أن تتقبله الفئة المطالبة بعروبة الدولة عندما يكون دستور الدولة حيادياً من البداية إلى النهاية، وينتج دولة مواطنة قائمة على المساواة بين أفرادها، لكن بالتأكيد هذا التغيير غير مقبول وغير مقنع من مجموعةٍ تَكتب دستوراً لدولة قائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية، فمَن أراد أن يبني دولة المواطنة عليه أن يبتعدَ عن جميع الظواهر السابقة من مناطقية، وطائفية، وعرقية، وقومية، عند ذلك فقط يكون صوته مسموعاً وحجته مقنعة.
لأن تأسيس دولة المواطنة يختلف عن تأسيس دول الطوائف والإثنيات، إذ إن لدولة المواطنة قواعدَها التي لا يجب الحياد عنها، ولدولة الطوائف أسسها المنطقية أيضا، ولا يصح المزج بينهم.
نحن لا نعتقد أن هناك شيئاً سورياً خالصاً منقطعاً عن أي صلة تاريخية أو اجتماعية، فلا بد له من جذر تاريخي ينتمي إليه، فإن أيَّ رمز هو يمثل السوريين بشكل عام ويمثل بالوقت ذاته فئة من السوريين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ثالثاً: علم الدولة ونشيدها
الحقيقة أن معظم مواد هذا المقترح الدستوري مولدة للإشكاليات لو طُبقت على أرض الواقع، فلو أخذنا نص المادة 39 المتعلقة بشكل العلم ونشيد الدولة، فقد نصت على "ألا تحتوي رموزاً تمثل طائفة أو قومية أو ديناً، ويطرح على مجلسي النواب والشيوخ لإقراره بأغلبية الثلثين". إذاً فالعلَم و النشيد الوطني لا تحوي مفرداتهما شيئاً يمثل السوريين ومعتقداتهم وتاريخهم، ونحن لا نعتقد أن هناك شيئاً سورياً خالصاً منقطعاً عن أي صلة تاريخية أو اجتماعية، فلا بد له من جذر تاريخي ينتمي إليه، فإن أيَّ رمز هو يمثل السوريين بشكل عام ويمثل بالوقت ذاته فئة من السوريين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فهل يريد منّا واضعو المقترح الدستوري أن نلغي تاريخ سوريا مقابل مقترح طائفي تحت ذريعة محاربة الطائفية لإنتاج دولة محاصصة طائفية أيضاً؟!
وزيادة في التناقض نصَّ المقترح في المادة 40 أنه يجوز للأقاليم رفع علم خاص بها، يعبر عن تاريخ المنطقة وثقافتها، وهو نص لم يقيد بالقيود السابقة، بمعنى أن إقليم دمشق وما حولها لو أراد -مثلاً- أن يضع رمزاً سريانياً فهذا مسموح لأنه من تاريخ المنطقة، بينما لم يتعامل بذات المرونة مع علم الدولة ككل.
نصت المادة 42 تحت ذريعة إنشاء مجتمع ديمقراطي مطلق بلا مراعاة لأدنى خصوصية للمجتمع السوري، وتمنع هذه المادة إصدار أي تشريع أو قانون ينتهك "مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان".
رابعاً: هندسة المجتمع السوري "ديمقراطياً"
تعمل النظم الاستبدادية على هندسة مجتمعاتها وفق الأيديولوجية التي تؤمن بها الطبقة الحاكمة، لذلك عمِلَ نظام الاستبداد في سوريا على هندسة المجتمع وفق فلسفة البعث ورؤيته، وعملت الأنظمة الشمولية بشكل عام على هندسة مجتمعاتها وفق فلسفتها، لذلك كان الخيار للمجتمعات والدول هو الديمقراطية التي تمنح سلطة تقديرية للسلطات الوطنية في إيجاد حل للتنازع الحاصل على أرضها مع مواطنيها، لأنها أقدر على فهم القوانين الوطنية وحفظ السلم الديني والأهلي ومراعاة مصالح المجتمع ككل.
أما من يريد هندسة المجتمع وإعادة ترتيب قيمه وفق فهمه القاصر للديموقراطية، فأعتقد أن السبل قد شطت به إذ وقع في حضن الاستبداد والشمولية، وهو ما حصل مع واضعي مقترح الدستور.
فقد نصت المادة 42 تحت ذريعة إنشاء مجتمع ديمقراطي مطلق بلا مراعاة لأدنى خصوصية للمجتمع السوري، وتمنع هذه المادة إصدار أي تشريع أو قانون ينتهك "مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان"، هذه الأفكار والمفاهيم الخاطئة عن الديمقراطية تشعر المرء وكأنه تحت حكم الاستبداد الشمولي الذي يحاول صياغة وهندسة المجتمعات بما يتناسب مع مفهومه للديمقراطية، والديمقراطية ببساطة ليست كذلك، بل هي حكم الشعب وفق رؤيته، وحقوق الإنسان ليست واحدة خلال التطبيق، فعلى سبيل المثال حقوق المثليين تختلف مساحتها من مجتمع ديمقراطي لآخر، لذلك نجد أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لا تسير في اتجاه واحد في كل قضاياها بل لديها قاعدة جوهرية هي "هامش التقدير للمجتمعات الوطنية"، ونراها في أغلب قرارتها، تمنح الدولة هامشاً واسعاً من التقدير للقرار الوطني مما يولد تبايناً واختلافاً في قرارتها. لا بل إن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان-على سبيل المثال- تعترف وتقر بأنه لا يوجد موقف موحد من علاقة الدين مع الدولة في المجتمعات الأوروبية إذاً نحن أمام مجتمعات ديمقراطية، وليس مجتمعاً ديمقراطياً موحدةً قيمُه، فكيف لمقترحي دستور تحت ذريعة الديمقراطية ألا يراعوا القيم السائدة في المجتمع السوري؟!
كما أنها مادة خطيرة جداً على عمل البرلمان فهي مادة مقيدة لعمله بشكل واضح، على سبيل المثال استطاع مجلس الشيوخ الإيطالي منع إصدار تشريع يدعم المثليين، ولم يحتجَّ خصومهم عليهم بالخروج على القيم الديمقراطية، ولكن هذه المادة تسمح -في حال طُبقت- بالاعتراض على أي قانون يجرّم أو يمنع المثلية، بذريعة الخروج على القيم الديمقراطية.
خامساً: المبادئ فوق الدستورية
ظهرت في الفترة الأخيرة عند بعض المتنطعين للدراسات الدستورية بدعة "المبادئ فوق الدستورية" وهي مفهوم خاطئ، يتعارض مع مبدأ سمو الدستور من جهة، ومع خصائص الهيئة التأسيسية الأصلية المختصة بوضع الدستور من جهة أخرى.
ومع ذلك نصت المادة 44 على شيء قريب من هذا المفهوم فقد نصت على أن "القيم التوافقية العليا تمثل مرجعاً لكل مواد هذا الدستور ولا يجوز مخالفتها بأي شكل". وهو نص يشكل أحجية صعبة الحل، فما القيم التوافقية، أو من الذي يضعها؟ وما هو مضمونها؟ ولماذا تمثل مرجعاً للدستور؟ إذا هي أسمى من الدستور، وأجدها أيضاً تفتح باباً كبيراً جداً من الصراع على مضمونها، وأراها تشبه بدعة لا وجود لها في دساتير العالم أجمع، ولا سيما دساتير الدول الديمقراطية.
لقد ادعى واضعو المقترح أنهم متمسكون بالقيم الديمقراطية ودولة المواطنة، غير أنهم ابتعدوا وشطوا كثيراً لإنتاج دولة محاصصة طائفية كما سنرى في مقالنا الثالث.