"دولة المحاصصة".. قواعد التأسيس والنتائج

2024.09.27 | 06:41 دمشق

آخر تحديث: 27.09.2024 | 10:44 دمشق

الدستور السوري
+A
حجم الخط
-A

الدساتير تؤسِّس لبناء الدول أو لانهيارها، والدستور هو المدماك الأول لهيكلية الدولة وانطلاقها، وهو البوصلة التي تؤشر لاتجاهها، وأخطر ما في دساتير الدول التي تريد التأسيس للديمقراطية بعد عقود من الدكتاتورية-ومنها سوريا المستقبل- هو اختيار شكل نظام الحكم.

أستطيع القول: إنَّ عملية اختيار نظام الحكم في سوريا المستقبل وتنظيم العلاقة بين السلطات الثلاث تشبه السير في رمال متحركة، لا تضمن لك السلامة حيثما وضعت قدمك.

وقفتنا الأخيرة مع مقترح (دستور المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية)، مع شكل الحكم وصناعة مجلس الشيوخ وصلاحياته.

نظام الحكم وسوريا المستقبل

الأنظمة السياسية ليست وصفة جاهزة تصلح للجميع، لذا يجب ألا ننظر إلى النظم ذاتها مكتفين بمزاياها من الناحية النظرية البحتة، وإنما يجب مراعاة ظروف الشعوب ومدى ثقافتها واستعدادها السياسي، وبحث مدى تجاوبها مع النظام المراد تطبيقه، ومدى صلاحية النظام لها من الناحية العملية الواقعية، فليست المسألة مسألة نظم فحسب، بل هي مسألة تربية واستعداد سياسي من جانب الشعوب، فالنظام السياسي الذي يصلح لشعب قد لا يصلح لغيره.

فلا غرابة أن نجد الجمعية التأسيسية الفرنسية التي كُلفت بوضع دستور سنة 1946 عارضت فكرة الأخذ بالنظام الرئاسي في فرنسا، وذكرت اللجنة أن تجارب الماضي تثبت أن الديمقراطية الفرنسية لا توافق النظام الرئاسي، وذهبت اللجنة إلى القول بأن ظروف الولايات المتحدة تختلف عن ظروف فرنسا، ومن ثم النظام الذي نجح تطبيقه في أميركا لحسابات خاصة بها لا يصلح عند التطبيق بفرنسا، وانتهت الجمعية التأسيسية الفرنسية وقتها إلى استبعاد هذا النظام لعدم صلاحيته بالنسبة إلى الشعب الفرنسي.

في قراءة مستعجلة لتجارب الدول الدستورية، لا سيما فرنسا، نلاحظ لا يتم تغيير دستور إلا نتيجة لاستعصاء حدث بسبب نص دستوري، فهم ينطلقون في التعديل من المشكلة التي حدثت في الماضي، دون تناسي الواقع السياسي الحاضر.

فلو أردنا أن نحدد المشكلة في سوريا التي أحدثت الاستعصاء سنجدها في تغول رئيس الجمهورية على باقي السلطات، أما الواقع السياسي لسوريا المستقبل فهو غياب الأحزاب السياسية التي تشكل كتلا سياسية كبيرة تكون رافعة لأي نظام سياسي.

لذلك من الجهالة أن يتم اختيار نظام سياسي من دون مراعاة الأمرين السابقين، وهو ما وقع به مقدمو مقترح دستور سوريا 2024، فقد عادوا واختاروا النظام شبه الرئاسي، وحقيقةً ما يدعو للاستغراب أن المقترح لم يتجاوز استعصاء الأمس، واختاروا نظاما يحافظ على قوة رئيس الجمهورية، وهذا يخالف منطق الأشياء، وتجارب الدول في التغيير.

ويرى الفقيه (Red slob) "أن التجارب التاريخية أثبتت، ولاسيما في البلاد حديثة العهد بالديمقراطية، بأن هذه الآلية تمهد الطريق إلى الدكتاتورية، فتجربة ألمانيا أوصلت هتلر، وتجربة تونس أوصلت دكتاتورية الحبيب بو رقيبة وزين العابدين بن علي، وتجربتنا السورية أوصلت الأب والابن، ومصر لا تنسى دكتاتورية السادات ومبارك، فهو طريق واضح نحو الدكتاتورية.

الكارثة لا تكمن فقط في اختيار نظام سياسي خاطئ، بل ومشوه، النظام شبه الرئاسي لا يوجد فيه موقع نائب الرئيس؛ لأن ذلك من سمات النظام الرئاسي الذي يسمح بهذه المهمة؛ لأنه يعدُّ منتخباً مع الرئيس مذكوراً اسمه في حملته، والغريب أنه إذا شُغر المنصب للوفاة أو لعدم الأهلية يتولى المهام رئيس مجلس الشيوخ، إذاً لماذا وُجد نائب الرئيس؟!

وحافظ المقترح على تغول الرئيس بأن منحه سلطة تعيين الحكومة والإقالة وقبول الاستقالة.

والجهل المركب يتضح بتحميل الرئيس المسؤولية التضامنية مع رئيس مجلس الوزراء وهذا خلل بيّن، فالمسؤولية التضامنية يتحملها مجلس الوزراء فقط في كل الأنظمة التي تسمح بالمسؤولية التضامنية.

إنَّ مقترح الدستور يمزج بين النظام الرئاسي وشبه الرئاسي، وهذا مزج ينم عن جهل بخصائص الأنظمة السياسية، إذ إن النظاميين يحتاجان بيئة ديمقراطية متكاملة، وتعددية سياسية، وأحزاباً عريقة تحتضن هذا النظام أو ذاك، وتضع لهما القيود لكيلا يتحولان إلى الفوضى أو الدكتاتورية؛ لذلك اختيار النظام شبه الرئاسي لسوريا المستقبل ينتج دكتاتورية جديدة وأقسى من السابقة.

لو تساءلنا هل نستطيع اختيار نظام سياسي معين في ظل دكتاتورية الأمس، وتصحر سياسي في المستقبل؟ أم نحتاج لإبداع نظام سياسي جديد؟ وهل يستطيع السياسيون في ظل الانتماء إلى أيديولوجيات مختلفة ومتصارعة أن يوجدوا نظاماً سياسياً مبتكراً يناسب سوريا والسوريين بعيدا عن انتماءاتهم الضيقة؟

إن ما تحتاجه سوريا المستقبل هو إبداع نظام سياسي جديد معقلن يستطيع تجاوز عقدة الأمس وهي تغول رئيس الجمهورية، وصعوبة الحاضر المتمثلة بعدم وجود أحزاب كبيرة وقوية تكون روافع للنظام السياسي.

تشكيل البرلمان يؤسس لحرب أهلية

من الطبيعي أن ينص مقترح الدستور على برلمان مؤلف من غرفتين لكونهم اختاروا الشكل الفدرالي للدولة، في كل الدول الفدرالية من أجل خلق توازن بين المركز والولايات يكون البرلمان مؤلفاً من غرفتين الأولى منتخبة وفق عدد السكان تُسمى المجلس الأدنى، والثانية تسمى المجلس الأعلى: وهو مجلس الولايات، ويتشكل من عدد من الممثلين لكل ولاية، وقد يكون عدد النواب متساوياً كما فعلت أميركا، أو يكون هناك تفاوت بين ولاية وأخرى كما فعلت ألمانيا عندما حددت نواب كل مقاطعة بين 5و13 ، أو الهند التي حرصت على عدم التساوي في المجلسين، بل يمثل كل ولاية حسب مساحتها وعدد سكانها.

لكن أصحاب المقترح تعمدوا تشويه ما اقترحوه (الشكل الفدرالي)، فكان مجلس الشيوخ ممثلاً للطوائف والقوميات، وليس للمناطق، وهذا خلل بيّن، وفي ظل اعتبار سوريا دائرة انتخابية واحدة، إذ من المتوقع أن ينجح في هذا المجلس الأعضاء القادمون من منطقتي دمشق وحلب ذات الكثافة السكانية، فيكون مجلس النواب والشيوخ أكثرية ممثليه من المركز، لذلك ستميل الدولة الفدرالية نحو المركزية، كما هو حاصل في العراق، حيث جميع القرارات لمصلحة المركز.

خالف المقترح الدستوري الآليات المتبعة عادة في دولة المحاصصة، فقد نصت المادة 54 على تشكيل مجلس الشيوخ من طوائف تم اختيارها بشكل رغبوي غير مبني على المعايير التي يمكن الحكم عليها، فممثلو المسيحية قُسموا لثلاثة مذاهب، والمسلمون السنة لم يقسموا لمذاهبهم، علماً بأن الطائفة الشيعية تم تقسيمها إلى ثلاث طوائف على الأقل (علوية، وشيعة، وإسماعيلية) علماً أنها كلها تصنف تحت الطائفة الشيعية، والأمر الآخر لم يترك قومية مهما صغر عددها إلا وذكرها باستثناء القومية العربية، إذ تم ذكر المسلمين السنة وهي تضم (الكرد، والترك، والشيشان، والجركس، والعرب) وهذا يدفعني للقول: إذا كانت المارونية السياسية وتغولها على السلطات دفعت لبنان إلى حرب أهلية بعد عقود من إقرارها، فإن هذه المادة هي ليست مادة دستورية، إنما مادة حرب أهلية مباشرة وبامتياز.

على من يريد أن يذهب إلى دولة محاصصة أن يعي أن كلمة محاصصة تعني أن تأخذ كل طائفة أو قومية حصتها وفق حجمها، هذه الدولة لا تقبل التساوي والمساواة بين الطوائف، ويتحول مفهوم الأغلبية والأقلية السياسية إلى أغلبية وأقلية طائفية أو عرقية، ويتم تحديد توزيع المقاعد البرلمانية والمناصب الحكومية بطريقتين:

الطريقة الأولى: يجب أن يسبق توزيع المقاعد وجود إحصاء يكون الأساس في التوزيع، وهذا ما حصل في لبنان، فتم الاعتماد على إحصاء 1932 والذي حدد المسيحيين بنسبة 51% مقابل 48% للمسلمين.

 فكان التوزيع بنسبة 6/5 وفي اتفاق الطائف أصبحت مناصفة لأن النسب أصبحت متساوية، و الآن هناك مطالبة بتعديل توزيع المقاعد لأن المسلمين يعتقدون أن نسبتهم ربما تصل إلى 70% من عدد السكان.

الطريقة الثانية: يتم السماح بتأسيس أحزاب طائفية وعرقية، ويتم اختيار نظام انتخابي يقوم على العدالة أكثر مما يقوم على الاستقرار، حتى تفرز نتيجة الانتخابات مقدار كل طائفة أو قومية، وعلى ضوء ذلك المقدار تأخذ حصتها في الحكم، وهذا ما طبقته دول المحاصصة في العراق.

إن المساواة التي تنطلق من المواطن (الفرد) تصل لدولة المواطنة، أما دولة المحاصصة فهي ليست كما يتوهم دعاتها الصغار بأن يقتسموا البلد بالتساوي، هذا الطرح ليس له مثيل في نماذج دول المحاصصة التي قامت عبر التاريخ، لذلك على الطائفيين الصغار أن يعوا أنهم يدمرون بلدهم بأيديهم، ويحطمون ما تبقى من نسيج اجتماعي سوري نتيجة لغبائهم وحساباتهم الخاطئة، فلعبة الذكاء بين الأذكياء ضرباً من الغباء.

وأخيراً في إطار التشكيل وقَع أصحاب المقترح في تناقض قاتل، فقد نصت المادة 22 على منع تأسيس أحزاب على أساس قومي أو ديني أو طائفي، وشُكل مجلس الشيوخ على أساس طائفي ومذهبي، إذاً لم يبق في الدولة سوى الأحزاب الليبرالية والوطنية، والسؤال هنا هل تَقبل أحزاب هذه صفتها أن تعود للخلف وترشح أعضاءها على أساس مكونات ما قبل الدول؟ على سبيل المثال هل يقبل حزب الشعب أو الحزب الشيوعي أن يرشح من أعضائه على أساس ديني، أو قومي، أو طائفي؟ لا أعتقد ذلك جازماً.

تغول البرلمان الطائفي على الدولة

لن ندخل بتفاصيل باقي السلطات ولا سيما موقع الرئاسة الذي حافظ على تغوله، ولكن سنكتفي بوقفة سريعة مع مجلس الشيوخ الذي يراه بعضهم ضرورة لحماية الأقليات، وفق الديمقراطية التوافقية التي تعني منح القوى السياسية التي تعبِّر عن مصالح الطوائف المكونة للمجتمع حق الفيتو المتبادل من أجل إيقاف قرارات القوى السياسية الأخرى عند اتخاذها لقرارات تضر بمصالحها، لكن مجلس الشيوخ المقترح يتجاوز موضوع الحماية إلى أداة تنفيذ وتقرير وحكم، لسعة الصلاحيات الممنوحة له، فهو من يصدق على التشريعات الصادرة عن الغرفة الأولى، وفي حال لم يصدق لا يوجد آلية للتغلب على اعتراضه، وللعلم فإن الاعتراض المطلق للتشريعات تجاوزته دساتير الدول بعد أن كان السبب الرئيس في ثورة الفرنسيين عام 1830.

ومجلس الشيوخ أداة تنفيذ، إذ يتبع له ديوان المحاسبات وهيئة العدالة الانتقالية ويشرف عليهما، ويشرف ويراقب على أجهزة الأمن والجيش وإقرار الموازنة ومسائلة الحكومة، وإحالة رئيس الجمهورية للمحاكمة، والمصادقة على تسمية نائب لرئيس الجمهورية والمدعي العام للجمهورية.

ويتغول مجلس الشيوخ على السلطة القضائية بشكل فجّ وصريح، فهو من يحاكم المدعي العام عند المخالفة وليس مجلس القضاء الأعلى، ويمتلك التسمية النهائية لأعضاء المحكمة الدستورية، ويقوم بشكل مخالف لكل الأنظمة الدستورية في العالم في تسمية أغلب الأعضاء لمجلس القضاء الأعلى المكون من أحد عشر عضواً، ثلاثة تمت تسميتهم مسبقاً هم أعضاء المحكمة الدستورية، وثلاث شخصيات اجتماعية يسميهم مجلس الشيوخ، والحقيقة هذه بدعة تنم عن جهالة واضحة بضرورة استقلالية السلطة القضائية وحيادها.

ولضمان بقاء تغوله على السلطات ربط تعديل الدستور بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، وبالتالي سد أفق التغيير لدى الشعب، ومن يسد أفق التغيير لدى الشعوب عليه أن ينتظر الانفجار الثوري المجتمعي.

هذا الدستور يؤسس لدكتاتورية البرلمان التي عانت منها فرنسا في فترة حكم الجمهورية الثالثة والرابعة لمدة طويلة نسبياً، فدفعت فرنسا ثمن ذلك سقوطها تحت الاحتلال الألماني، ولم تستطع تغيير النظام إلى أن قُدِّر لها شخصية كاريزمية تملك تاريخًا وحظوة في نفوس الفرنسين (ديغول) فنقلها إلى النظام شبه الرئاسي.

في الختام:

لقد عبَّر هذا الدستور بشكل واضح وصريح عن جهل واضعيه بأبسط القواعد الدستورية، وعن نظرتهم القاصرة لبناء الدولة، فالدولة ليست دولة فئة أو طائفة، والطائفية هي علة العلل في بناء الدولة، والمعرقل الأساسي لبنائها. وغاب عنهم أن النموذج الطائفي يقوم بتعزيز الهويات الطائفية، وتوفير وضع سياسي وقانوني متكامل لها على حساب التقارب نحو هوية سورية مشتركة، وبالنتيجة انهيار الرابطة الوطنية يُضعف مؤسسات الدولة.

وهناك حقيقة يجب أن يعيها الجميع، أن نظام المحاصصة الطائفية لن يكون في مصلحة السوريين، ولا في مصلحة أي فئة من فئات المجتمع السوري، بل سيكون في مصلحة أفراد يبحثون عن بقايا موقع يتسلقون إليه باسم طائفة ينتسبون إليها أو قومية يدعون تمثيلها، ولنا في لبنان والعراق عبرة.