من يتابع التحول الرقمي السريع الذي يدخل إلى حياتنا يوميا، قد يجزم بأن الكتاب الرقمي قد ألغى وجود الكتب الورقية، ولم يعد لها مكان على "الرف" داخل البيوت، إلا أن دراسة قامت بها كلية الأعمال والاقتصاد بجامعة ماكويري بأستراليا على عينة من ألف كاتب وناشر، أكدت أن نصيب الكتب المطبوعة ما زال في الصدارة بنسبة 45 في المئة مقارنة بـ 35 في المئة للكتب الرقمية، مشيرة في الوقت نفسه إلى ازدياد نسبة الكتب الصوتية أو المسموعة.
ففي عصر الذكاء الصناعي، لم يعد يكفي أن نقول كتاب، لنعرف ما المقصود، فالكتب باتت ورقية (الكتب التي تعودنا على حملها بأيدينا، ووضعها في صدارة بيوتنا ومكاتبنا)، ورقمية (أي إلكترونية، تحمل بثوان في ملف رقمي، أو في فلاشة صفيرة، حتى ولو كانت مؤلفة من عشرات الأجزاء العملاقة).
وقد يأسف كثيرون لأن الكتاب الورقي لم يعد سيد البيوت والمكتبات والمقاهي الثقافية، كما كان سابقا، ويشعرون بغصة لأن تقاليد القراءة وحمل الكتاب باليدين في المنزل مع قلم لتحديد النقاط المهمة، بدأت تتراجع، وقد تختفي مستقبلا لصالح القراءة من شاشات الهاتف النقال والآيباد وغيرها.
تجاوز الرقابة
علاء الدين الزهراوي صاحب مكتبة أمواج تحدث لموقع تلفزيون سوريا عن الفرق بين قراءة الكتاب الرقمي والكتاب الورقي ويرى أن "الكتاب الورقي أو المطبوع هو شيء ملموس، مادي، تفوح منه رائحة الحبر، ومرتبط بذكريات، أما الكتاب الرقمي أو الإلكتروني فهو معنوي، مجرد إضاءات ورسوم غير ملموسة، والبشر تميل إلى الشيء المادي المحسوس، فتميل أكثر للكتاب الورقي".
ويبلغ أسف البعض إلى درجة الفزع، مع انتشار ظاهرة الكتاب المسموع، أي الكتاب المسجل بأصوات بشرية، أو أصوات الذكاء الصناعي، حيث يمكن الاستماع إليه أثناء تناول الطعام، أو القيام بأعمال المنزل، أو قيادة السيارة.
تقول السيدة بشرى حداد لموقع تلفزيون سوريا: "الكتاب الرقمي يفتقر إلى الروح التي يتميز بها الكتاب الورقي، ويظهر ذلك خاصة حين تواجه القارئ مشكلات تقنية أثناء القراءة عبر الأجهزة الرقمية مثل انقطاع الإنترنت، أو انقطاع الكهرباء، أو نفاذ بطارية الهاتف المحمول، مما يقطع سلسلة الأفكار ويعطل تجربة القراءة".
لكن للكتاب الرقمي فوائد عظيمة قد تعوض هذا الخسارات، وربما تتفوق عليها كثيراً. فالكتب الرقمية تتميز بميزات كبيرة على الكتب الورقية، أهمها خروجها عن الرقابة والمنع والقص، فعبارة كاتب ممنوع، التي عاشت على وقعها أجيال من القراء في الدول ذات الأنظمة المستبدة، لم تعد موجودة الآن. لا يوجد كتاب يمكن منعه، أو قص صفحات أو أجزاء منه، وذلك منذ عرفت البشرية الكتاب الإلكتروني، المحمل عبر شبكات الإنترنت.
وتتميز الكتب الإلكترونية بسهولة الحصول عليها، ورخص ثمنها أو مجانيتها الكاملة، وسهولة البحث عنها والوصول إليها، بينما كان القراء والباحثون يجوبون المكتبات، أو يسافرون لمدن أو دول أخرى، أو يتوسلون الأصدقاء والمعارف والمسافرين، للبحث عن كتاب ورقي.
لقد كانت الكثير من الكتب الورقية غالية الثمن، لدرجة أن كثيراً من القراء من الطلاب والباحثين كانوا يستعيرونها، أو يستأجرونها أو يصورونها أو ينسخونها، لتجنب دفع ثمنها الغالي. أما الآن، وبعد ظهور الكتاب الإلكتروني، أو الرقمي، فلا أحد يحتاج لاستعارة كتاب، أو استئجاره.
لمن ترجح كفة الميزان؟
يقول الباحث عزيز المصري لموقع تلفزيون سوريا: "الكتاب الإلكتروني انعكاس لواقع التطور التكنولوجي، وهو مفضل للأجيال الشابة، وله مميزاته وإيجابيات كثيرة منها سهولة الحصول عليه، سهولة البحث في المكتبات الإلكترونية، سهولة حمل الكتب الإلكترونية والتنقل بها (أينما أسافر مكتبتي الإلكترونية تسافر معي)، والوصول إليها في كل زمان ومكان، رخيص الثمن وأحيانا مجاني، إمكانية تخزين آلاف الكتب الإلكترونية على جهاز الحاسوب وترقيمهم في مجلدات، وهناك تطبيقات خاصة لقراءة الكتب الإلكترونية، كثير من الكتب الورقية مفقودة نعوضها بنسخ إلكترونية. الكتاب الورقي ارتبط بالذكريات والقراءة الأدبية وهو المفضل لدى الأجيال القديمة".
ويمكن حمل ألف ألف كتاب رقمي في فلاشة صغيرة. ولا يحتاج القارئ لاصطحاب الكتاب (الذي قد يكون ثقيلاً، أو كبيراً).
وقضى الكتاب الرقمي على ظاهرة اقتناء الكتب للزينة والتفاخر والعرض واستكمال ديكور المنازل والمكاتب. صار الكتاب للقراءة فقط، فالكتاب الرقمي لا يمكن استعراضه ولا التفاخر بشكله الخارجية، ولا استخدامه للزينة أو الديكور.
لكن البعض يرى أن مجانية أو رخص الكتاب الرقمي، وسهولة الحصول عليه، قلل من قيمة الكتاب، ومن قيمة القراءة. فمنع الكتب كان يحرض الناس على قراءتها والاحتفال بها، والبحث عنها، وثمن الكتب الغالي كان يعطيها هيبة وقيمة لم تعد موجودة، حتى تقاليد وطقوس القراءة من الكتاب الورقي، كانت جميلة، وهي لا توجد في الكتاب الرقمي، وتفتقد البيوت التي تعتمد على الكتب الإلكترونية لجمال الكتب الورقية التي كانت أبرز معالم البيوت، وديكوراتها.
ماذا عن قواعد وأصول النشر؟
يقول الخطاط خالد الأفندي لموقع تلفزيون سوريا: "الكتاب هو الصديق الصدوق، الذي يوفر ملاذاً هادئاً من ضجيج الحياة وصخبها. الكتاب سيظل المرجع الأساسي في فوضى الأفكار، وسيحتفظ بهيبته ما دام الإنسان والقلم موجودين".
ويرى هؤلاء أن الكتاب الرقمي ربما زاد كمية القراءة، لكنه هبط بمستواها، فالكتب الرقمية تشمل كتب التسلية، واللهو، وكتب الصور، والكتب التي يستحيي الناس من حملها بأيديهم، أو وضعها في مكتباتهم.
أكثر من ذلك، فإن إيجابية خروج الكتاب الرقمي عن الرقابة والمنع، تترافق مع سلبية تفلت الكتاب الرقمي من قواعد وأصول وضوابط النشر، والمستوى العلمي والأدبي، وجودة المضمون، التي كانت تضمنها دور النشر، وأهمها ضوابط احترام الملكية الفكرية. فعبر الكتاب الرقمي يمكن إصدار كتب من دون أي ضوابط، ويمكن بسهولة سرقة النتاج الفكري والأدبي، أو التلاعب به، أو تشويهه، دون التعرض للمساءلة والمحاسبة القانونية.
تقول الكاتبة فاديا اعزازي لموقع تلفزيون سوريا: “الكتب الرقمية التي يتم اصدارها دون رقيب أو دار نشر، من الكاتب إلى القارئ بشكل مباشر كانت سبب بمضاعفة سهولة النشر وإتاحة النشر ربما أكثر من اللازم وأسهل من اللازم أيضاً، مما يجعل القاع الأدبي ممتلئاً بالكتب التي لا تُقرأ ولا تضيف للأدب والعلم شيئاً".
وسواء كانت ميزات الكتاب الرقمي أكثر أم أقل من سلبياته، فإنه صار حقيقة واقعة لا مجال لتجنبها، وصارت مصادر المعرفة لا تقتصر على قراءة الكتب، سواء الرقمية أو الورقية، وإنما تشمل الاستماع، والمشاهدة، لكل منتجات وسائل الإعلام والتواصل، دون أن ينتهي دور الكتاب الورقي.
يقول الكاتب فادي أوطه باشي لموقع تلفزيون سوريا: "مساحة قراءة الكتاب الرقمي تزداد، وستزداد أكثر مع الوقت، لكن قراءة الكتب الورقية لن تنتهي، سنظل نحمل الكتاب بأيدينا عندما نقرأ مادة أدبية كرواية أو قصة حيث العلاقة بين القارىء وبين الكتاب تكون أشبه بعلاقة عاطفية تختزن وتصاحبها مشاعر لحظات القراءة ويمكن للقراءة الرقمية أن تكون موازية بموضوعات علمية أكثر حيث تكون الصور أوضح وقادرة على التخزين والمراجعة".
رغد فنصة، صاحبة دار النشر "جذور"، تؤكد لموقع تلفزيون سوريا أن مكانة وهيبة الكتاب المطبوع أو الورقي ما زالت كبيرة، بدليل "أن العديد من الزبائن يأتون إلى المكتبة ليشتروا كتباً قرؤوها على الإنترنت، يقولون إنهم لم يستمتعوا بها كما يستمتعون بقراءة الكتب الورقية، إذ يشعرون بمتعة خاصة عند الإمساك بالكتاب وتقليب صفحاته، والاحتفاظ به".