icon
التغطية الحية

الكاتب اللاهي: جرائم قتل متسلسلة بين المؤلف وشخصيات الأدب

2023.01.28 | 18:13 دمشق

جان دوست
+A
حجم الخط
-A

"هذه الدنيا تشبه لعبة خيال الظل، وما نحن إلا شخوصها التي يضعها المخايل وراء الستارة ويسند إليها الأدوار خيراً وشراً". (أحمد خاني، ملحمة مِمُو زين، البيت 2590).

تتمحور رواية الكاتب "جان دوست" الأخيرة بعنوان "اللاهي.. فردوس الكاتب العجوز" حول محورين مركزيين، المحور الأول يتعلق بالسؤال الأدبي عن العلاقة بين الكاتب والشخصيات الأدبية، سواء تلك التي قرأ عنها أو التي ابتكرها، والمحور الثاني يتعلق بالسؤال الفلسفي الأخلاقي والاجتماعي المتعلق بفعل القتل الذي يرتكبه الأفراد أو الذي ترتكبه الإنسانية تحت عنوان الحروب.

في ملاحظةٍ افتتاحية بالصفحة الأولى من الكتاب، تعلن الرواية عن لعبة العلاقة مع الشخصيات التخيّلية القادمة من تاريخ الأدب: "ملاحظة: في هذه الرواية تعالق أو اشتباك نصي، وهي لعبة سردية مألوفة تتحدث عن شخصيات انتزعها الكاتب العجوز من روايات عدة. هي شخصيات حقيقية، ليس بمعنى أنها عاشت بالفعل على الأرض ولكنها عاشت في الروايات وخلقها خيال الكاتب".

القارئ والمؤلف والشخصية القصصية في لعبة تبادل الأدوار

منذ البداية، يُرسم التداخل بين العالم الواقعي والعالم التخيلي الأدبي، فالقارئ الذي هو الكاتب أيضاً، يلج عالم الشخصيات الروائية ويحاورها: "في أثناء القراءة كان الكاتب العجوز يتسلل إلى النص فيجعل من نفسه شخصية إضافية ويرد على الشخصيات الموجودة في كل رواية، يحاورها، يناقشها في بعض الأفكار، ويفند آراءها ويقهقه ساخراً منها أو يهز رأسه موافقاً على ما تقوله". وهذا ما سيخلق أدواراً متداخلة بين القارئ/ الكاتب والشخصيات الأدبية في النص الروائي، وسيؤدي إلى أن ينطلق الكاتب في فكرة روايته التي تجمع شخصيات تخيلية من تاريخ الأدب: "ظل العجوز على هذا المنوال، إلى أن قدحت في ذهنه ذات يوم فكرة كتابة رواية يستدعي فيها أبطال بعض الروايات التي قرأها في خلال حياته وتلك التي قرأها في عزلته الأخيرة، فيستنطقهم، بل يدخل هو بنفسه إلى الرواية المرتقبة ليصبح إحدى شخصياتها المحركة للأحداث".

وكما أن القارئ والمؤلف قادران على الدخول إلى الواقع الروائي، فإن الشخصيات الروائية أيضاً بدورها يمكن لها أن تخرج إلى الواقع الحقيقي، وهذا ما يحدث حين تخرج الشخصيات الأدبية من نص مسودة الكاتب على إثر انفجار يحل بمكتبته: "خرج أبطال الروايات الـ13 الذين انتخبهم الكاتب العجوز من بين مئات الشخصيات لأجل ألهيته الروائية واحداً تلو الآخر من صفحات مسودة الرواية التي كانوا محبوسين فيها، فهاموا على وجوههم في المدينة الموحشة، ثم اجتمعوا في فندق براديسو المقفر لينسجوا تفاصيل هذه القصة".

فرصة جديدة لشخصيات الأدب للتعبير عن نفسها

في نهاية الرواية، يصارح الكاتب العجوز الشخصيات الأدبية بالدافع الذي قاده إلى استحضارهم في رواية واحدة: "كانت الفكرة بسيطة ومفادها ماذا سيحدث لو جمعنا شخصيات بعض الروايات في رواية واحدة لنبني عالماً مختلفاً. كيف ستبدو الشخصيات حين تتخذ أوضاعاً خارجة عن مألوفها؟ لا شك أن الأمر سيكون مثيراً باجتماع العمالقة في رواية واحدة بدل تفرقهم على روايات مختلفة".

لقد أعطى الكاتب العجوز الشخصيات الأدبية فرصة جديدة لتغيير الصور الأدبية التي أحاطت بها، منهم: الفارس (دون كيخوته) الذي قضى أوقاتاً طويلة يقرأ قصص الفروسية حتى فقد عقله وقرر أن يصبح فارساً جوالاً يدافع عن المظلومين، الضابط (جيوفاني جروغو) الذي يمضي عمره في انتظار التتار، (غريغور شامشا) الذي حوله مؤلف (التحولات) إلى حشرة، العجوز الصياد (سانتياغو) في رواية (العجوز والبحر) والذي يردد: "الإنسان كائن مجنون، كائن خلق للصراع"، وكذلك (قابيل) من رواية (خوسيه ساراماغو) التي يراها الكاتب العجوز بارعة التكوين: "لقد كان ساراماغو موفقاً جداً في تشريح شخصية قابيل الذي لا تقل محنته ومأساته عن محنة عمه إدريس في رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ"، وبصورة مركزية شخصية (روديون رومانوفيتش راسكولنيكوف) من رواية (الجريمة والعقاب).

جريمة الشخصيات الأدبية في موت المؤلف

منح الكاتب العجوز الشخصيات الأدبية فرصة جديدة للوجود وللحياة: "لقد أحييتكم من جديد، بعثتكم من مرقدكم ومنحتكم أصواتاً مختلفة في هذا الفردوس الجديد، نسفت الأطر التي كنتم محبوسين داخلها". بعض الشخصيات تنتهز الفرصة للتعبير عن نفسها بما يخالف ما كرست لأجله في تاريخ الأدب، مثل (الماركيز دو ساد) الذي يستنكر الصفات التي ألصقت بشخصه في الدراسات الأدبية: "أنا مثلاً كتبت رواية 120 يوماً في سدوم عندما كنت سجيناً في الباستيل، وفي هذه الرواية من الفظائع ما دفع الناس إلى تنصيبي رمزاً للوحشية الفائقة. لكن الحقيقة هي على عكس ذلك، لست وحشاً، والسادية مصطلح سارع إلى نحته علماء النفس بناءً على نتف من أخبار متواترة عني". لكن الأغلبية من الشخصيات ترفض المصير الجديد الذي يقدمه إليهم الكاتب العجوز، ومنهم (راسكولينكوف) المتمرد على مصير الكتابة: "نحن خرجنا من دائرة المنطق، حتى المنطق الروائي لم يعد متوافراً هنا. لا منطق في فخاخ ألهية هذا الرجل العجوز الذي وقعنا جميعاً فيها. إننا الآن أسرى الخروج عن النص".

مع هذه الحبكة الرئيسية في الرواية، تبدأ معالجات أسئلة العلاقة بين النص الأدبي والتاريخ، والجدل حول العلاقة بين المؤلف والشخصية الروائية، فتعترض الشخصيات على مصيرها في رواية الكاتب: "أحييتنا لتقتلنا وتتسلى بالرعب الذي نكابده مذ جئنا إلى أرض روايتك. كنا نقيم سعداء في أعمال رائعة يعرفها الجميع في كل مكان، وسنبقى أحياء للأبد بدون لعبتك هذه"، بينما يبرر الكاتب بالجدل الأدبي الذي يدرس العلاقة بين المؤلف ونصوصه: "سأبقى أنا الربان وستبقى دفة السرد بيدي. ولتعلموا أنه كان بإمكاني أن آتي بشخصيات أخرى غيركم".

وحين تتفق الشخصيات الأدبية على قتل المؤلف، تذكرنا الرواية بدراسات (رولان بارت) والمدرسة البنيوية عن العلاقة بين المؤلف ونصه: "إذا كنتم ستقتلونني فسيكون القتل بإرادتي قبل كل شيء. كل ما يحدث في هذه الرواية بإرادتي لا بإرادتكم. وسيكون قتلي في نهايتها نوعاً من الانتحار اللذيذ. لتعلموا جيداً أن موت المؤلف يعني نهاية حياة النص. يموت المؤلف ليبقى النص. النصوص خالدة أيها القتلة".

سؤال القتل والجريمة والحروب في الممارسة الإنسانية

المحور الثاني الذي يحتل مركزاً أساسياً في الرواية هو سؤال القتل، إن الكاتب العجوز في حكاية الرواية يعيش في مدينة عرفت الحروب المدمرة، وتبدو افتتاحية وصف المعارك والحروب التي عاشتها المدينة أساسية في أسئلة الرواية التالية، ومنها سؤال الحرب.

تقوم الحبكة البوليسية في الرواية على وقوع جرائم متسلسلة في الفندق الذي تقيم فيه الشخصيات الروائية، وتختفي الشخصية تلو الأخرى ليعثر عليها جثة في مكان مجهول، ويبقى السؤال عن هوية القاتل المتسلسل يشغل حوارات الشخصيات وسلوكياتهم. لكنه أيضاً يفتح على أسئلة فلسفية واجتماعية كانت تعبر عنها هذه الشخصيات، فاستحضار شخصية (قابيل) يكون لمعالجة سؤال جريمة القتل الأولى، الذي يحاول تبرير جريمته تارةً، وتارةً أخرى يندم على مصيره كأول مجرم في تاريخ الإنسانية:

"قابيل: لقد كتب السيد الأعظم، أن أكون لسوء حظي أول مجرم من بين آدم. قتلت أخي عذبني ضميري وعاقبني عقاباً أليماً.

قابيل: لقد سننت للبشر من بعدي سنة قبيحة: اقتل لترث القتيل. ثم تطور البشر بعد ذلك حين تناسوا وملأوا ظهر الأرض فصاروا يجيشون الجيوش ويشنون الحروب، يقتل بعضهم بعضاً ويرث جيش القتلة الغزاة.

قابيل: قتلت لشعوري بالظلم يا راسكولنيكوف. وهو أحد دوافعك أنت للقتل. الشعور بالظلم يجعل العاجز قاتلاً".

القتل بين أسئلة الذات وأسئلة المنطق

وتحتل شخصية (راسكولينكوف) موقعاً محورياً في الرواية، باعتبارها شخصية نموذجية عالجت موضوعة (الجريمة والعقاب). وتتعدد التأويلات حول شخصية ر(اسكولينكوف) أو سلوكه الذهني والنفساني. يكتب (ريتشارد ييس) تحت عنوان (الجريمة والعقاب تقويم جديد للأخلاق): "كان دوستويفسكي بالأساس يفكر في كتابة (الجريمة والعقاب) مروية بضمير المتكم، أي اعترافات، وهو أسلوب اتبعه بنجاح في رواية (في سردابي). وإذا كان الشخص الحالم الرومانتيكي الذي كان يمثله رجل السرداب، قد أصيب بالخيبة والمرارة، فإن راسكولنيكوف هو أيضاً حالم تلبسته المرارة، إنه مثالي مرتد عن المثالية".  

بينما يصفه دوستويفسكي نفسه في رسالة إلى الناشر يشرح له فيها عن فكرة الرواية، فيكتب: "إنها رواية سيكولوجية عن جريمة، السلوك فيها معاصر، وأوضاعها أوضاع السنة الحالية. شاب، طالب جامعي مفصول، أصله من البرجوازيين الصغار، يعيش في فقر مدقع. وهو بسبب ضحلة تفكيره وعدم استقراره يستسلم لأفكار فجة".

يحاول راسكولينكوف تقديم الدوافع العديدة لجريمة قتل المرأة العجوز في الرواية: "لقد قتلت النظام الاجتماعي الاقتصادي الفاسد في روسيا القيصرية حين قتلت العجوز"، وفي رواية دوستويفسكي يقول راسكولينكوف: "لم تكن العجوز إلا وعكة أردت أن أتخطاها مسرعا بقدر الإمكان، أنا لم أقتل العجوز، بل قتلت مبدأ، أما المبدأً فقد قتلته، وأما التخطي فلم أنجح في القيام به" (الجزء الثالث- الفصل السادس).

يكتب (ريتشارد ييس) في دراسته الضخمة عن روايات دوستويفسكي، وتحت عنوان (الجريمة والعقاب الدافع والرمز): "إن ازدواج القيم يتخلل الرواية كلها. وهكذا يصبح القارئ منذ البداية مدركاً للتنافر في شخصية راسكولينكوف بين جانب قاس وجانب وديع خانع. إن سلوك راسكولينكوف هو تأكيد للذات هنا، وتحطيم لها هناك، عقلاني هنا، ولا عقلاني هناك، شرير هنا، وطيب هناك. ولم يستطع في نهاية الأمر أن يقدم أياً من الدوافع فعلاً للجريمة، فيتراجع إلى فكرة أن الجريمة هي بمعنى ما رمزية، مدعياً إنما قتل نفسه، ولم يقتل العجوز، بل يدعي أن الشيطان قتلها. فإن كان عليه أن يتحمل تبعة جريمة كاملة فالتفسير الوحيد الذي يبدو أن باستطاعته تقديمه هو أنه قتل في سبيل ذاته، وهو تفسير يبدو أنه يستبعد كل دفع عقلاني، بل ويبدو أنه يشير إلى حاجة لا عقلانية للقتل في سبيل القتل. وفي نهاية الأمر يكون راسكولينكوف متحيراً بخصوص دافعه إلى الجريمة بقدر حيرة القارئ".

جريمة في الواقع لأجل قصة في الأدب

يرتكب الكاتب العجوز في رواية جان دوست جرائم القتل المتسلسلة بحق الشخصيات الأدبية، وهو يرى سلطته المطلقة على مصيرها: "لست ساحراً، أنا مؤلف، أنتم لستم سوى شخوص في خيال الظل وأنا المخايل. أنا صانع شخصيات من العدم ونافخ الروح فيمن مات منها ومن لم يوجد أصلاً". لكن الشخصيات الأدبية تتفق على قتل المؤلف، فيقول راسكولينكوف مبرراً جريمة القتل: "أتفق معك أيها العجوز أن اللعبة استهوتنا، ولتعلم أنك اخترتها بنفسك، ولذلك لابد من أن تصبح جزءاً منها، لابد من أن تصبح ضحية ما اخترعته. انتهى دورك في اللعبة أيها العجوز، سنقتلك. نعرف أن القتل شر، لكن ليس دائماً، أحياناً لابد من القتل إذا كانت الغاية نبيلة".

وكذلك، في فيلم (المختلون السبعة) الذي كتبه وأخرجه مارتن ماكوندي، تتم معالجة سؤال موضوعة القتل لأجل الإبداع الأدبي، فالفيلم يروي حكاية (مارتي) الكاتب الذي يعيش في لوس أنجلوس، وهو عالق في كتابة سيناريو لا يمتلك منه سوى العنوان (المختلون السبعة). صديقه المفضل (بيللي) ممثل مغمور يكافح للعيش من سرقة الكلاب ومن ثم لإعادتها إلى أصحابها مقابل ومبالغ ترضية. لا يملك كاتب السيناريو فكرة عن المختلين السبعة الذين سيكونون أبطال أحداث السيناريو الذي يكتبه، حتى يقنعه (بيللي) ببعض أكثر المجرمين المتسلسلين شهرة وخطورة، وجعلهم جزءاً من حكايته.

لكن المختلين السبعة ما يلبث أن يختفي الواحد منهم خلف الآخر أو يفقد حياته، كلما اقترب منهم الكاتب ليدون قصتهم. وفي نهاية الفيلم، ندرك أن (بيللي) الممثل الراغب في نجاح السيناريو وراء كل هذه الجرائم في الحقيقة، والدافع لقيامه بها هو عيش صديقه الكاتب (مارتي) تجارب مدهشة لكتابة سيناريو رائع، يكون سيناريو الفيلم النهائي.

لقد حول (بيللي) روايات الجريمة المتسلسلة البسيكولوجي إلى أفعال وجرائم في الواقع، وذلك خدمةً للكتابة القصصية. إن القتل هنا نابع عن دافع إرضاء الفن ودفعه إلى إبداع أكثر غزارة وكثافة. يعترض الكاتب (مارتن) في نهاية الفيلم على أفعال (بيللي) الإجرامية لكن المتلقي يكون قد استمتع بحكاية الفيلم القائمة على جريمة في الواقع لأجل قصة في الأدب.