يُرفع العلمُ عاليا في الدولة، وله مكان خاص في ضمير الشعب، ويتصدر الاحتفالات الوطنية، والعروض العسكرية، والمناسبات الرياضية، وقطعة القماش هذه ليست مجرد ألوان أو رموز أو شعارات يتم اختيارها اعتباطيا بقصد ضمان الانفراد والتميز عن بقية الشعوب، إنما واجهة للدلالة على شعب أو أمة استطاعت الصمود في معركة الصراع من أجل البقاء، فجاءت فكرة العلم لتجسيد قليل من عبق الماضي وكثير من أماني وأحلام المستقبل على قطعة مستطيلة أو مربعة الشكل تتوارث جيلًا بعد جيل.
تاريخيا فقد عقد الرسول الكريم صل الله عليه وسلم أكثر من راية وأكثر من لواء، والرواية المتداولة عن أن رايته عليه الصلاة والسلام كان اسمها العقاب ولم يتم الجزم بهذا الأمر من مصادر موثوقة في تاريخ السنة النبوية الشريفة.
من ثم درجت سنة الرايات والأعلام، فكانت البيضاء والسوداء في عصر الخلافة الراشدة، والأبيض راية الدولة الأموية، والأسود للدولة العباسية، والأخضر للدولة الفاطمية، والأحمر علم الدولة العثمانية.
لذلك هناك رواية تنسب أعلامنا الوطنية إلى تلك المصادر، بينما تذهب أخرى إلى أن ألوان أعلامنا اقتبست من بيت شعري لصفي الدين الحلي قال فيه:
بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا
وراء كل علم قصة عادة ما تبقى خارج المفكر فيه لدى أهل الدولة، يبقى أن حكاية صناعة العلم يجب أن تكون أولى دروس المواطنة بالنسبة للأطفال والناشئة، لا أن يكون الأمر ألوانًا ترمز إلى الاستبداد وعدم القدرة على حماية الوطن والشعب.
مع اندلاع ثورة الحرية والكرامة في 2011 وبعد فترة زمنية قصيرة، ومع زيادة وتيرة العنف من قبل النظام تجاه المدنيين العزل وارتكاب العديد من المجازر، كانت العودة التلقائية لرفع علم الاستقلال الذي أصبح علما ورمزا للثورة السورية في وجه الاستبداد، ذلك العلم الذي له تاريخ طويل وحافل في حياة سوريا والسوريين.
منذ صدور قانون العلم في عام 1980 لم يعط النظام آنذاك أهمية لعلم الدولة، بل بقي يقدم عليه علم حزب البعث في هتك واضح لمكانة العلم
لكن حقيقة عدم شعور غالبية السوريين بأن علم النظام يمثلهم ليس وليد لحظة 2011 بل تعود إلى مرحلة تاريخية أبعد، فمنذ صدور قانون العلم في عام 1980 لم يعط النظام آنذاك أهمية لعلم الدولة، بل بقي يقدم عليه علم حزب البعث في هتك واضح لمكانة العلم، وحتى النشيد كان نشيد حزب البعث هو السائد وهو الذي يتقدم على النشيد الوطني في الاحتفالات والمناسبات الوطنية.
وبعد عام 2000 كانت هناك محاولات خجولة من النظام لإعادة الهيبة والمكانة للعلم الوطني، فأطلق بعض المسابقات الفنية (تحريك العلم) لإعادة رسم العلم بطرق وأشكال متعددة على الطريقة الأميركية أو الغربية بشكل عام.
ولكن كل ذلك لم يجد نفعا في إنهاء القطيعة بين الشعب ورموز الدولة التي فرضها النظام، حتى أكثر من ذلك بدأت ومن داخل النظام تظهر رايات لرموز غير وطنية وراية حزب الله مثالا، حيث كان من الملاحظ قبل 2011 ظهور راية حزب الله في مسيرات النظام واحتفالاته حتى إن صور زعيم الحزب كانت توجد إلى جانب صور رئيس النظام في الكثير من الدوائر الرسمية.
منذ رفع الثوار لعلم الاستقلال بدأت أبواق النظام وأزلامه بالعمل على محورين متوازيين، الأول هو إعطاء الأهمية لعلم النظام عبر طباعة عشرات آلاف النسخ وتوزيعها في المسيرات المؤيدة والمدارس والجامعات، إضافة إلى إقامة مسيرات خاصة بإطلاق أطول علم، وإعادة ضخ الأغاني التي تمجد العلم وتقدسه، وصولا إلى قيام سلطات النظام بإلزام أصحاب المحال التجارية بطلاء واجهات محالهم بألوان العلم، أما المحور الثاني فهو الهجوم على علم الثورة (علم الاستقلال) عبر وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة، من خلال الحديث عن أن هذا العلم هو علم الانتداب الفرنسي، وأن النجوم الحمراء الثلاثة التي تتوسط العلم ترمز إلى ثلاث دويلات الدولة الدرزية في الجنوب، والدولة العلوية في الساحل، والدولة السنية في حلب ودمشق، وأن من يرفع هذا العلم يريد تقسيم سوريا وعودة الاستعمار لها، وهذا محض افتراء ليس على الثورة والثوار وليس على علم الاستقلال بل على الوطن برمته وعلى ماضيه ومستقبله، ولكن من قصف المدنيين بالكيماوي والبراميل المتفجرة ليس غريبا عنه أن يشوه تاريخ وطنه وشعبه من أجل الحفاظ على كرسيه وبقاء عائلته في السلطة.
بين العامين 1932 و1964 (مع فترة انقطاع قصيرة زمن الوحدة بين سوريا ومصر بين العامين 1958 و 1961) كان علم الاستقلال (علم الثورة اليوم) هو العلم الوطني الرسمي لسوريا أي لقرابة 30 عاما.
وضع العلم بقانون عام 1932، في عهد أول رئيس سوري منتخب ديمقراطيًا محمد العابد على يد لجنة برلمانية برئاسة الرمز الوطني المناضل إبراهيم هنانو وهو أحد قادة الثورات المناهضة للاحتلال الفرنسي، شخصية خالدة في وجدان السوريين جميعا وقصة حياته ونضاله تدرس في كتب التاريخ السورية، رفع العلم على المباني الحكومية في يوم الاستقلال في العام 1946، وبقي علما لسوريا حتى العام 1958 حينما ألغاه الرئيس المصري جمال عبد الناصر غداة تأسيس الجمهورية العربية المتحدة.
عاد السوريون إلى العلم الأخضر والأبيض والأسود عندما انفرط عقد الوحدة في العام 1961، وبقي قيد الاستخدام لمدة سنة تقريبا بعد مجيء البعثيين إلى السلطة في العام 1963.
حتى إن كل ضباط الكلية الحربية الذين تخرجوا قبل 1964 قد أقسموا على هذا العلم ومنهم من وصل إلى السلطة في عام 1963.
هذا التاريخ الطويل يفسر لماذا بقي علم الاستقلال رمزا قويا، فقد استخدمه اثنا عشر رئيسًا سوريا، بدءا من محمد العابد وصولا لأمين الحافظ، وبقي 14 عاما بعد جلاء الاحتلال الفرنسي، وخاض الجيش السوري تحت ظلاله حربا ضد الاحتلال الإسرائيلي، وستة انقلابات، ولهذا لا يمكن أن يلغى من وجدان السوريين بسهولة.
دلالات ألوان علم الاستقلال الأخضر والأبيض والأسود تحدثنا عنها بقي الحديث عن النجوم الحمراء الثلاث التي تتوسط العلم، فهي بعكس ما روج له أبواق النظام هذه النجوم دلالة على ثلاث ثورات متتالية ضد الاحتلال الفرنسي، ثورة سلطان باشا الأطرش في الجنوب، وثورة الشيخ صالح العلي في الساحل، وثورة إبراهيم بيك هنانو في الشمال، وفقا لمرسوم العلم الصادر في 1932، وهذا دليل إضافي على أن علم الاستقلال هو راية جامعة لكل أبناء الوطن وتجسيد حقيقي لأسمى معاني الوحدة الوطنية للشعب.
علم الاستقلال ما زال يحتفظ بموقعه في الذاكرة التاريخية الوطنية لدى غالبية السوريين، فرفعه من قبلهم في ثورتهم المباركة هو اعتزاز بسوريتهم وانتمائهم لهذا الوطن
ونعتقد أن الحاكم الوطني والسياسي الوطني هو الذي يبحث في التاريخ عن العوامل والمقومات التي تدعم وحدة التراب الوطني والشعب، لا أن يخترع الأكاذيب لتفتيت هذه الوحدة بحثا عن التجانس المزعوم.
علم الثورة والاستقلال انصهر بشكل كامل في ضمير ووجدان السوريين، منذ رفعه مع بدايات ثورة الحرية والكرامة، حينما رفرف عاليا خفاقا مع الهتافات المطالبة بالحرية به مكفنا شهداءنا، وتحت ظلاله خضنا المعارك في مواجهة الاستبداد والفساد والإرهاب.
كل ما سبق يفسر ويثبت أن علم الاستقلال ما زال يحتفظ بموقعه في الذاكرة التاريخية الوطنية لدى غالبية السوريين، فرفعه من قبلهم في ثورتهم المباركة هو اعتزاز بسوريتهم وانتمائهم لهذا الوطن كما كان عندما حرره أجدادهم وهو يشير إلى الهوية الوطنية للسوريين الثائرين على الاستبداد والفساد والإرهاب على نظام حوّل شعاره وقسمه من الإخلاص لله والوطن والشعب إلى تجيير اسم الوطن لاسم عائلة وإخلاصه الوحيد هو للمحافظة على سيطرة النظام الذي دمر الحجر والبشر ولم يخجل من إعلان شعاره "الأسد أو نحرق البلد".
رسالة الثائرين للنظام واضحة، سنستعيد سيادة الشعب السوري على كامل أراضيه ونعيد توحيده أرضًا وشعبًا، ونحقق استقلال الإنسان والشعب والأرض وسنعلن نهاية الجمهورية الوراثية.