احتفلنا منذ أسابيع بمرور أحد عشر عاما على اندلاع الثورة السورية بانتفاضتها على نظام ظن أنه باق للأبد، وإن لم تقم الثورة من أجل تغيير العلم والنشيد واسم الدولة لكنها بدأت مشروعا جذريا يطرح على المحك أموراً عدة من ضمنها علم البلد الذي رآه الكثير من أبناء الثورة اعتداء على وطنيتهم، بالطبع كانت ومازالت ثورة على أمور كثيرة على وظيفة قمعية استعبدت المواطن بالداخل وساهمت بنشاط في تدمير المنطقة، وعلى اقتصاد ضحل لا ينتج إلا التفاوت والفقر والبطالة، وعلى تعليم لا ينتج معرفة يعتد بها.
لا شك أن للرموز الوطنية للدولة مكانة خاصة لدى كل شعب ينتمي بحق إلى دولة تحميه وتحترم حقوق الإنسان، وتقوم على الديمقراطية، والتداول السلمي على السلطة، رموز الدولة تملك قدسيتها من المثل والقيم التي تمثلها وليس من شكلها ولا ألوانها، بالتالي أي رمز للدولة يفقد قدسيته نتيجة لانتهاك نظام الحكم لتلك القيم التي يمثلها، وتصبح تلك الرموز تعبيرا عن نظام الحكم والانتهاكات التي يرتكبها بحق مواطنيه ودولتهم، مما يدفعهم إلى البحث عن رموز جديدة تجسد تلك القيم التي يحترمونها، أو يعودون إلى رموز سابقة شكلت مراحل ناصعة من تاريخهم فأجمعوا عليها وأهمها علم الاستقلال الذي رفعه أجدادنا في أول عرض عسكري احتفالًا بجلاء آخر جندي فرنسي عن أراضينا.
هذه الرموز قد خضعت للتغيير والتعديل في أكثر من منعطف سياسي أو مع وصول حزب ما إلى السلطة
الرموز تتبناها الدولة ليتم تحديد رسمها وشكلها وألوانها من ثم لتقوم بحمايتها أي حماية الرموز بالنص عليها في القانون، ونقول القانون وليس الدستور لأن رسم هذه الرموز متغير أو على الأقل يجب أن يكون قابلا للتغيير أو التعديل حسب إرادة الشعب، وكما هو معلوم إن تعديل القوانين وتغييرها يتطلب إجراءات أقل تعقيداً وصعوبة من تلك المتعلقة بالدستور، ومن مراجعة التجربة الدستورية والقانونية السورية نجد أن هذه الرموز قد خضعت للتغيير والتعديل في أكثر من منعطف سياسي أو مع وصول حزب ما إلى السلطة.
أما القول بوضع هذه الرموز في الدستور وحماية النص الخاص بها من التعديل بالطرق العادية للدساتير عبر موافقة السلطة التشريعية على التعديل، والاشتراط لتعديل هذا النص الاستفتاء الشعبي عليه فنحن لا نعتقد بصحة هذا القول مع معرفتنا الكاملة بأن هناك الكثير من دساتير الدول قد نصت على إعطاء هذه المواد المتعلقة بالرموز وغيره من المواد أهمية وحماية خاصة في متن الدستور، ومن المهم القول بأن إجماع السوريين اليوم على الرموز الوطنية أمرٌ يحتاج إلى سبر ووقوف على حقيقة ما يريده الشعب السوري لذلك من الأفضل أن نعود إلى إرادة الشعب عبر عرض هذه المواضيع عليه بإجراء استفتاء شعبي عام مع التأكيد على ضرورة تمكين كل السوريين والسوريات من المشاركة بهكذا استفتاء أو تركها لتحدد بقانون يسنه أول برلمان منتخب بعد تحقيق الانتقال السياسي الديمقراطي وتنفيذ قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤ وكل القرارات ذات الصلة.
إن هذه الرموز التي تشتمل على علم وشعار الدولة واسم الدولة وغيرها.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون أهم من الإنسان أو أهم من حياة المواطن ومن حريته وكرامته الإنسانية، فهذه الرموز وجدت لتعبر عن كل ذلك، فلا معنى وطني لهذه الرموز إذا كان نظام الحكم يقمع ويقتل شعبه ويسومهم سوء العذاب.
وبالتالي فإن الكرامة الإنسانية للشعب تسمو فوق كل الرموز، والقول بضرورة أن يضحي الشعب في سبيل حماية هذه الرموز ليس فقط قولًا خاطئا، بل إنه خطيئة بالمعيار الوطني، فالتضحية يجب أن تكون فداء للدفاع عن النفس والعرض وحق الشعب بحياة كريمة وللدفاع عن الأرض وعن الاستقلال نضحي من أجل رفع الظلم ومن أجل حرياتنا وحقوقنا وكرامتنا كشعب وكمواطنين وليس من أجل رموز قابلة للتغيير ولا سيما إن باتت تلك الرموز فاقدة لرمزيتها ولهذه القيم التي كان يجب أن ترمز إليها.
رسم الرمز يجب أن يكون له بعد وعمق في تاريخ الدولة والشعب، ملتصقاً ومتناغماً مع الهوية الوطنية التي يجب أن تعبر عن كل أبناء الشعب
من جهة أخرى يجب أن تكون هذه الرموز محل قبول وطني عريض وواسع من أكبر نسبة من أبناء الشعب، إضافة إلى أن رسم الرمز يجب أن يكون له بعد وعمق في تاريخ الدولة والشعب، ملتصقاً ومتناغماً مع الهوية الوطنية التي يجب أن تعبر عن كل أبناء الشعب، وعندما يمعن نظام الحكم فيها بارتكاب الجرائم بحق المواطنين واستهدافهم باستخدام العنف المفرط بالبراميل المتفجرة والأسلحة المحرمة دولياً وباعتقال وتعذيب مئات الآلاف منهم وقتل عشرات الآلاف من المعتقلين والمعتقلات تحت التعذيب، لا يبقى أمام المواطنين المدنيين الأبرياء إلا خيار الهرب من وطنهم بحثًا عن ملجأ آمن يضمن لهم تلك الحقوق، وهذا ما حدث في سوريا حيث بات أكثر من نصف الشعب بين لاجئ ونازح.
حرية، عدالة، كرامة، بهذه الشعارات صدحت حناجر السوريين والسوريات قبل أحد عشر عاما، قيم ومؤشرات كثيرة كانت تنطوي في هذه الشعارات أهمها أن من حرموا الشعب من هذه القيم واغتصبوا حقوقه الأساسية وارتكبوا الانتهاكات بحقه هم من أبناء جلدتنا ممن استولوا على السلطة، وتغذوا على تحالفات وإعانات خارجية، إلا أن الأساس هو أن الشعب كان على أهبة الاستعداد للدفاع عن هذه القيم وحقوقه الأساسية، هؤلاء الثوار الذين تظاهروا في الساحات وفي الميادين كانوا يستعيدون الوطن، يستعيدونه من نظام التوريث الجمهوري، ويستعيدونه من شعارات وأنماط العمل السياسي السابقة التي جيرت الوطن لمصلحة قلة ولمصلحة الفرد المتشبث بالسلطة بأي ثمن كان، رهنت الوطن والشعب لأجندات إقليمية وطائفية.
لقد شكلت الثورة فرصة ليكتشف السوريون ذاتهم الوطنية هذا الاكتشاف الذي طال الشعب والوطن يحتم تغييرات كبرى ولن تكون الرموز الوطنية للدولة إلا أحد تفاصيلها.