اجتماع غازي عنتاب.. هل يؤسس لطاولة حوار حقيقية؟

2024.09.09 | 11:37 دمشق

214
+A
حجم الخط
-A

اهتمت أوساط العاملين بالشأن العام والشارع السياسي السوري خلال الأيام الماضية بالاجتماع الذي عُقد في مدينة غازي عنتاب التركية، والذي ضم كلاً من هيئة التفاوض السورية والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والحكومة السورية المؤقتة، فضلاً عن قادة الفيالق والفصائل العسكرية، برعاية الأشقاء في الدولة التركية. وقد تحدث أكثر من زميل وصحفي ومحلل سياسي عن الاجتماع، وجرى عرض تفاصيله وحيثياته بشفافية ومصداقية عالية. وعلى الرغم من أن تفاصيل وقائع الاجتماع شيء مهم، إلا أننا نعتقد أنه من المهم أيضاً تحليل هذا الاجتماع بخلفيته والنتائج المرجوة منه، وكيف يمكن الاستفادة منه على المستوى السوري العام.

عُقد الاجتماع بناءً على طلب رؤساء مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السورية، أي كلاً من بدر جاموس، هادي البحرة، عبد الرحمن مصطفى، مع حفظ الألقاب للجميع، لبحث ومناقشة الواقع السياسي والعسكري بين المؤسسات السورية وأيضاً مع الجانب التركي، لبحث التحديات التي تواجه منطقة شمال غربي سوريا.

وقُدِّم هذا الطلب للأشقاء الأتراك لجمع الجناحين السياسي والعسكري للثورة على طاولة واحدة. وطُلب منهم أن يرعوا هذا اللقاء باعتبار أن للدولة التركية علاقات وصلات جيدة مع كل الأطراف السورية المعارضة، السياسية منها والعسكرية، وهي تعمل معهم منذ وقت ليس بقصير، وتستضيف غالبية مؤسسات قوى الثورة والمعارضة، إضافة لما تمثله الدولة التركية من وزن وثقل يتجلى خصوصاً في تواجد الجيش التركي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام للمساعدة في ضبط الأوضاع الأمنية، فضلاً عن استضافتها لأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، وتقدير السوريين واحترامهم لها كدولة جارة مهما اختلفت الظروف السياسية والمصلحية والتموضعات، فـ "الجغرافيا قدر الأمم، وهي العامل الثابت في صناعة التاريخ" كما قال شارل ديغول.

قيل "المصارحة قبل المصالحة"، وهذا ما بدأ حقيقة في اجتماع غازي عنتاب، حيث كان هناك حديث صريح ومواجهة الجميع للجميع بالحقائق دون مجاملات ودون مواربة.

نعود إلى اجتماع قوى الثورة والمعارضة موضوع البحث، وكما أعتقد، فقد كان من أكبر وأهم وأشمل الاجتماعات التي عُقدت خلال السنوات الأخيرة. فآخر اجتماع شامل لقوى الثورة والمعارضة كان قد عُقد في الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، في أواخر عام 2017. وهنا لا أهدف إلى تضخيم الاجتماع الذي جرى قبل أيام وتحميله ما لا يحتمل، لكن في ظل واقعنا الصعب والمضطرب الذي نعيشه كسوريين في الداخل والخارج وفي كافة المناطق السورية، نعتقد أنه يجب النظر إلى أية محاولات لجمع السوريين على أنها فعل جيد ومحمود، ومصدر أمل لعموم الشعب السوري المثخن بالجراح والمتعب من السنوات العجاف الطويلة والظروف الاقتصادية والمعيشية التي ينوء بها المواطن السوري.

‎لا شك أن طاولة الحوار السوري-السوري ضمن قوى الثورة والمعارضة مهمة جداً، ويجب العمل عليها والاستمرار بها، وتقريب وجهات النظر والاتفاق على البناء لا الهدم، وتحديداً في هذه المرحلة بعد سنوات طويلة على انطلاق الثورة السورية المباركة، وبعد فترة ليست بقصيرة على تحرير جزء من أراضي الدولة السورية في شمال غربي البلاد من سلطة النظام وقبضته الأمنية، وسيطرة قوى الثورة والمعارضة على هذه المنطقة الجغرافية، مع فوارق في الأشكال والمرجعيات والطموحات. وهذه تفاصيل لسنا في صددها في هذه العجالة. وبناءً على ذلك، فإنه من الطبيعي أن تحدث خلافات وربما خصومات، وتنشأ تحديات داخل البيت الواحد والفريق الواحد. وقد تكررت خلال السنوات الماضية المطالبات والمحاولات لعقد مؤتمر وطني في الداخل السوري من أجل البحث ودراسة ما وصلت إليه الأوضاع في هذه المنطقة، ولإعادة توحيد الرؤية والمسار وتقليص الخلافات إن لم يكن تصفيرها.

قيل "المصارحة قبل المصالحة"، وهذا ما بدأ حقيقة في اجتماع غازي عنتاب، حيث كان هناك حديث صريح ومواجهة الجميع للجميع بالحقائق دون مجاملات ودون مواربة. ورغم أن هذه المصارحات والوضوح والشفافية قد تؤدي أحياناً إلى حالات من الغضب أو الاستياء بين المتحاورين، إلا أنها وفق قناعتنا خطوة ضرورية بل إلزامية للوصول إلى صيغ تفاهمات ومواقف مشتركة، لأن الاستحقاقات القادمة كثيرة وتتطلب وحدة الصف والقرار، ولأن القضية ليست قضية شخصية أو فردية بل هي قضية وطن.

علينا النظر بعناية إلى الوضع الإقليمي المتفجر، خاصة بعد عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، والحرب الدائرة بين إسرائيل وأذرع إيران في المنطقة.

هنا لا بد أن نتذكر أن آخر المحاولات للدفع بالمسار السياسي وفق القرار 2254 كانت اجتماعات اللجنة الدستورية، وتحديداً الجولة الثامنة منها، والتي عُقدت في أوائل شهر حزيران 2022، أي منذ أكثر من سنتين. ولا توجد أية مفاوضات متحركة أو فاعلة ضمن مسار جنيف السياسي، فالنظام وحلفاؤه يحاولون جاهدين قتل القرار 2254 وإيصال المجتمع الدولي إلى اليأس من إيجاد حل سياسي للقضية السورية. وعلى التوازي، نشاهد التطبيع العربي مع النظام وإعادته إلى جامعة الدول العربية، وكذلك نلمس رغبة بعض الدول الأوروبية في تغيير مواقفها من القضية السورية نتيجة ضغط اللاجئين عليها وخشيتها من التحديات الأمنية والإرهاب، وتحاول الضغط على الاتحاد الأوروبي لتغيير موقفه أيضاً. ونرى المساعي الروسية للدفع بعملية التطبيع بين الدولة التركية ونظام الأسد تحت وطأة مخاوف تركيا المشروعة على أمنها القومي وقضية اللاجئين التي تستثمر فيها المعارضة التركية في الداخل التركي.

‎ورغم كل ما سبق، نرى أن مناطق السيطرة في سوريا ثابتة تقريباً منذ سنوات. فالنظام الذي يتهرب من العملية السياسية غير قادر على تغيير الواقع على الأرض نهائياً، وهذا يطرح بدوره جملة من التحديات والأسئلة المتعلقة بمستقبل الكيان السوري، وهل سيبقى دولة واحدة أم أنه سينقسم ويتشظى إلى عدة دويلات؟ وهذا ما نناضل بكل الوسائل من أجل أن لا يحدث.

إضافة إلى ما سبق، علينا النظر بعناية إلى الوضع الإقليمي المتفجر، خاصة بعد عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، والحرب الدائرة بين إسرائيل وأذرع إيران في المنطقة، وفي مقدمتها حزب الله.

كذلك، الحديث الذي يدور عن احتمال توسع الحرب لتشمل تدخلاً إسرائيلياً برياً في جنوب لبنان وسوريا لإبعاد حزب الله حتى خط العرض المعروف بشمال نهر الليطاني. وأيضاً، المستنقع الأوكراني الذي تغرق فيه روسيا يوماً بعد يوم. فضلاً عن ترقب نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية ومعرفة كيف سيتعامل ساكن البيت الأبيض الجديد مع الشرق الأوسط وأزماته، وانعكاس ذلك على الاصطفافات والتحالفات والاستراتيجيات الدولية والإقليمية.

‎كثيرة هي المتغيرات التي حدثت أو من المنتظر حدوثها في المستقبل القريب، وكل ذلك يفرض على المعارضة السورية السياسية والعسكرية حتمية ترتيب بيتها الداخلي وشد الصفوف تحضراً للمرحلة القادمة التي تحوي تحديات أكبر، والاستفادة من التجارب والتعلم من العثرات والأخطاء، وتقويم المسارات لما فيه فائدة ومصلحة للمواطن السوري، وإعادة الألق إلى المبادئ الأساسية التي انطلقت من أجلها ثورة السوريين، الحرية والكرامة والأمن والاستقرار ودولة المواطنة والقانون والدستور.

‎اجتماع غازي عنتاب، أو لقاء غازي عنتاب، يُمثل كما أعتقد فرصة لتأسيس طاولة حوار حقيقية يمكن أن تصبح مع الوقت، ومع ازدياد حجم الثقة بين القوى المشاركة السياسية والعسكرية، طاولة لاتخاذ القرارات على الصعيد العسكري والسياسي. حيث يمكن أيضاً في هذه الاجتماعات أن تنضج المواقف، وتُدرس المتغيرات حتى نصل إلى تفاهمات تحملها المعارضة السورية معها إلى الحلفاء والأصدقاء، وتكون قوية في مواجهة المتغيرات العاصفة التي تحدث. وعلى السوريين تشجيع مسار الشفافية والحوار هذا، الذي يحتاجونه بالفعل. وعلى المشاركين تطوير آليات التفاهم والسعي للالتقاء واغتنام فرص قد لا تتكرر لتوحيد الكلمة والموقف والفعل، للوصول إلى الأهداف السامية التي ضحّى السوريون من أجلها بالكثير.