يعد التعليم أساساً لمجتمع صحي متطور، والرافعة المؤمنة لعوامل الإنتاج، وكلما كان الواقع التعليمي سليماً، كانت النتائج والمخرجات متينة ورصينة، وضامنة للتنمية المستدامة. ويمهد طبيعة النظام التعليمي خاصة خلال الأزمات لأربع مراحل متشابكة، الأولى: تخص راهن الحال وهو قصير المدى، يتعلق بسلامة طلبة المدارس ودور التعليم كمدماك في حماية الطالب من العنف والتسرب المدرسي وعمالة الأطفال والأكثر سوءاً زواج القاصرات. والثانية: طويلة الأجل أو تأثير التربية على المدى البعيد: رأس المال البشري والإنتاجي والنمو الاقتصادي، حيث يمهد التعليم ومستواه وطبيعته إما للفقر أو النمو والرفاهية. الثالثة: ترسيخ الاعتماد طويل الأجل على المساعدات وفشل مشاركة الشباب في مسارات المستقبل وإعادة تأهيل البلاد. الرابعة: المشاريع التطويرية والاعتماد على الاكتفاء الذاتي، وتالياً فإن راهنية التعليم توضّح مستقبل الطالب والأهالي والبلاد. وبعلاقة ذي صلة، فإن الصراع السياسي ونتائجه العسكرية والأمنية بين الأطراف المتصارعة خلال الأزمات والحروب على التعليم، تحرك وتحدد هي الأخرى دور ومكانة التنمية المستدامة وديمومة الموارد الطبيعية من عدمها، كما أنها الراسمة الأساسية لتفضيل أو تأخير خيار الهجرة.
-التعليم والتنمية المستدامة
تُشكل منظومة التعليم ومستوياتها، مقياساً لتقدُّم الأمم وحضارتها، خاصة وأن العلم مع التعليم، ثنائية سحرية للتنمية البشرية، وتالياً التنمية المجتمعية والاقتصادية والثقافية، ولمختلف مناحي الحياة، وهما الاستثمار الأفضل لبناء مستقبل مستقر مستدام. فالتنمية البشرية مفتاح دخول العصر ومواجهة تغيراته، وحجم الإنفاق على التعليم خاصة ما قبل الجامعي يعني الاستثمار في الإنسان، خاصة وأن المورد البشري أهم من المورد المادي لإنجاح جهود التنمية.
حيث الإنسان هو رأس المال الأثمن والإطار النظري للعلاقة بين التعليم والتنمية، والواجب الاستثمار فيه؛ فالنظام التعليمي والمناهج أساس التطوير الاقتصادي، وينعكس إيجاباً على زيادة الإنتاجية، وتطوير عجلة النمو الاقتصادي لتحقيق الرفاهية[1]. وللتعليم دور أساسي في ترشيد استخدام الموارد المتاحة والتخطيط لسلم الحاجات، والبحث عن طرق جديدة لتأمين هذه الحاجات دون التأثير على حقوق الأجيال القادمة ووفقاً لقياس المؤشرات الستة للتنمية المستدامة[2] يُمكن الاستدلال بسهولة لفشل العلاقة بينها وبين التعليم في سوريا حالياً ومستقبلاً، أولاً: مؤشر الإنفاق الحكومي على التعليم، الدراسات العليا، البعثات الخارجية، الدورات التدريبية والتثقيفية، المعسكرات الجامعية والمدرسية، والتي عادة تُصرف من موازنات الدولة. يُلاحظ غياب شبه تام لحجم المبالغ المالية المخصصة للإنفاق الكلي على التعليم. حيث تقليص أعداد طلبة الإيفاد لإتمام الدراسات العليا إلى أقصى الدرجات، مع عدّم الكشف عن الكتلة المالية المخصصة للصرف على التربية والتعليم. إضافة إلى قلة الأبحاث الرصينة حول مشكلات التربية والتعليم في المناطق المختلطة قومياً ودينياً.
ثانياً: التخطيط المستمر لمستقبل الأجيال والمساواة الجندرية في الحقوق والواجبات والحريات: تميل غالبية العوائل لدعم الذكور أكثر من الإناث في التعليم، بسبب الضائقة المالية وندرة المداخيل الاقتصادية، دفعهم ذلك لتفضيل خيار تزويج القاصرين وهم في سنّ المدرسة على تتمة التعليم، كما إن الطالبات المقيمات في الأرياف حصلن على تعليم أقل في فترة جائحة كورونا، حين اللجوء إلى التعليم عن بعد ON LINE، بسبب عدم كفاية الأجهزة الإلكترونية في المنازل.
ثالثاً: رفع مستوى تعليم أفراد المجتمع وعددهم، ومجانية التعليم ما قبل الجامعي: بالرغم من توفر عنصر مجانية التعليم، لكن لسوء الوضع التعليمي في المدارس الحكومية المجانية، لجأت أعداد كبيرة من العائلات لإرسال أبنائها إلى مدارس ومعاهد خاصة، بتكاليف مرتفعة جداً. إضافة إلى غياب تام لمؤشرات رفع سويّة التعليم، من حيث مستوى الفهم والاستيعاب المتدنّي لدى أعداد كبيرة.
رابعاً: حجم الوعي بالبيئة: وهو مؤشر مهم جداً للتنمية الحالية والمستقبلية، لكن واقع المناخ والبيئة ينذر بكوارث، فحجم الاهتمام بالبيئة والزراعة يقعان في أسفل سلم الأولويات لدى مختلف الحكومات المسيطرة على سوريا، يغذي هذه الفكرة بؤس حجم الإنفاق الكلي على قضايا البيئة والمياه والزراعة، وتأثيرها على المردود المالي لعوائل الطلاب، وهي في مجملها تؤثّر على الوضع الاقتصادي وارتباطه بالتعليم.
خامساً: نسبة الفقر والبطالة ومحو الأمية: وهي أبرز المؤشرات الخطيرة التي تعصف في المنطقة، حيث تبلغ نسبة الأمية بين أعمار أطفال المدارس أرقاماً مرعبة وفقاً للمشاهدات والمتابعات، أما الفقر فيكاد يكون العنوان الأبرز للغالبية العظمى من الأسر، فالأسرة المؤلفة من /4/ أشخاص بحاجة إلى مبلغ وسطي لا يقل عن ثلاثة ملايين ل.س شهرياً، مقابل الرواتب المتدنية للموظفين في قطاع التربية خاصة.
سادساً: "كثافة الاختصاصيين الصحيين وتوزيعهم على السكان"، حيث يتطلب الحصول على تلك الشهادات مجهوداً مضاعفاً مرتبطاً بجودة ودرجة علمية معينة، وإنتاجاً مضاعفاً في الدراسة فيعتبر وجود أطباء ومهندسين ومدرسين متمكنين، مقياساً على مستويات التعليم الموجودة. فمثلاً وجود أعداد كبيرة من الأطباء المهرة يعني أن مستويات الصحة مرتفعة ودليل على مخرجات تعليمية رصينة ومؤشر على المستوى العام للتعليم. والأخطر أن أعداد المنتسبين لكليات الطب البشري من طلبة الشمال الشرقي على سبيل المثال في الجامعات السورية الحكومية التي تتطلب معدلات مرتفعة، في تناقص مستمر؛ نتيجة ضعف التعليم ما قبل الجامعي، وسوء التخطيط، وفقدان المدارس لوظيفتها الرئيسية وعزوف الطلاب عن الالتحاق بالدوام الفعلي.
-جودة التعليم وخيار الهجرة:
يشكل التعليم وسوء أحواله القاسم المشترك بين غالبية المُهاجرين ممن أجريت معهم اللقاءات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمقابلات مع عوائل تبحث عن طريق آمن للهجرة، والذين أكدوا على "تحملنا كل شيء، فقر وجوع وهدر كرامات، لكن لا يُمكننا العبث بمستقبل أبنائنا وضياعه".
فأحد الأسباب الرئيسية المباشرة للهجرة إضافة للوضع الأمني والمعيشي، هي قضية اليأس والخوف من المستقبل العلمي والتعليمي للطالب. فجودة مخرجات العملية التعليمية والأدوات المستخدمة من مناهج، كادر بشري...إلخ هي مؤشر مهم جداً لجودة التعليم وتقييم العملية التعليمية ما يؤثر سلباً/إيجاباً على الطاقات المستقبلية للبلاد، إضافة لوضع المهاجرين والاندماج مع المجتمعات الجديدة وقوانينها، وحاجز اللغة كأبرز عائق لإتمام التحصيل العلمي لأعداد كبيرة من الطلبة المهاجرين، وانعكاسها على سدّ الحاجات المطلوبة داخلياً في مرحلة الاستقرار.
وبالرغم من حجم الوجود الدولي في المنطقة ككل، لكن المشكلة البنيوية لتلك القوى هو غياب أيّ مشروعٍ سياسيٍّ لها حول سوريا منذ بداية الأزمة وإلى تاريخه، وغياب الحلول الاستراتيجية يعني فقدان أي آليات لدعم العملية التعليمية، وبقائها على حالها الراهن. وبالمحصلة فإنّ ضعف التعليم وفقدان مستقبله الواضح، يمهّد للفقر حالياً ومستقبلاً.
الخلاصة: إن إحدى أبرز مشكلات التعليم ما قبل الجامعي في سوريا خلال سنوات الحرب هي فقدان الربط بين التنمية البشرية والمستدامة مع مخرجات العملية التعليمية، وعدم ربط تطوير الاقتصاد مع المناهج الموجودة، فمخرجات التعليم وشهاداتها لا توفر خططاً لمواجهة الفقر، ولا يُبشر مستويات التعليم بمستقبل اقتصادي للبلاد، وهي من أبرز مُسببات تثبيط أو تنشيط النزوح والهجرة، داخلياً وخارجياً للحصول على مستقبل آمن.
والمطلوب هو ضرورة الشروع بتأسيس منظومة تربوية تتجاوز ذاكرة الحرب والأدلجة الحزبية، قائمة على هويّة وطنية جامعة، وزيادة التنمية البشرية في التعليم؛ كونها رافعة مهمة وأداة تطوير السياسات التعليمية. وهو يتطلب ضرورة الاتفاق على منهاج موحد، أو في بعض المواد، والخروج بخطة متفق عليها بحيث يكون الطالب بعيداً عن طبيعة الصراع السياسي، خاصة أن التعليم والمناهج يُمكنها أن تلعب الدور المحوري في مواجهة العنف وتثبيطه. والمناهج التوافقية تشكل تعزيزاً لشرعية المؤسسات الديمقراطية.
[1]- How Education and Training Affect the Economy, https://bit.ly/3U96IUp
[2]- لقاء مع الخبير الاقتصادي محمد حفيد، من مدنية القامشلي، مُحاضر جامعي.