يقول "إيكهارت تول" في مقدمة كتابه حديث السّكون إنه سَطّر ذلك الكتاب على شكل "سوترا"، وتابع: "يمكن رؤية تكوين هذا الكتاب بوصفه إحياء للعصر الحالي المتعلّق بأقدم شكل للتّعاليم الرّوحية المسجلة، في سوترا الهند القديمة". وعند استعراض فصول الكتاب يتبين أنّه كُتب على شكل (شذرات)، فأغلب الكتابات التي تندرج تحت مسمى السوترا هي شذرات لفلسفات روحية مختلفة، فالعلاقة بين الكتابة الشّذرية والتّعاليم الروحية متجذرة منذ أقدم شكل لهذه التّعاليم كما يؤكد إيكهارت.
"كلما اتسعت الرّؤية، ضاقت العبارة" محمد بن عبد الجبار النفـري
"الشَّذْرُ: صغار اللؤلؤ، شُبّهت بالشّذر لبياضها"[1]، أما الشّذرات كمصطلح فهي نصوص تجمع بين صغر الحجم وعمق المعنى. ومن أهم ميزات الشّذرة بحسب الدكتور جميل حمداوي: "التّكثيف، والإضمار، والإيجاز، والحذف، والتّركيز"، وغالبا ما تتضمن الشّذرات أفكاراً ومعاني فلسفيّة تتأرجح بين العمق والسّطحية.
ظهرت الشّذرة أول ما ظهرت عند فلاسفة الطبيعة كطاليس، وأنكسيمندريس، وأنكسيمانس[2]، وهي في الغالب خلاصات تجارب ذاتيّة غير مبرهنة، لا تكترث للقارئ إن كان يراها غامضة أم واضحة. إنّها "فنّ الخلود" كما يسميها الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه"، وهذا ما يجعل هذا النوع من الكتابة إشكاليا وأحيانا غامضا لكنه بالوقت ذاته ساحر وجذّاب، يغري القارئ بمتابعة القراءة رغم ّأنّه يطرح الأسئلة ولا يكترث لتقديم الأجوبة، وبالتالي يحاول القارئ البحث عن الأجوبة لإزاحة الغموض الذي يحيط بالشّذرات من كل الجوانب.
من جهة أخرى نلاحظ أنّ أغلب التّعاليم الدّينية والفلسفات الرّوحية "غير السماوية" كتبت على شكل أمثال وحكم، فالسوترا عبـارة عـن "أقوال قصيرة، تتجنـب كـل إعـادة غير ضرورية، وأن تقتصـد في الكلمات"[3]، أي كتبت على شكل شذرات.
لماذا اختاروا الكتابة الشّذرية؟
تتعدد الأسباب التي تجعل بعض الفلاسفة والكتاب يختارون هذا الأسلوب السّردي فإميل سيوران يفسّر اختياره لهذا النّمط بالكسل وأحياناً بالحالة المزاجية. يقول: "الشّذرة هي الشّكل الوحيد الملائم لمزاجي، تمثل كبرياء لحظة محولة، مع كل التّناقضات التي تحتويها. إنّ عملاً ذا نفس طويل، وخاضعاً لمتطلبات البناء ومزيفاً بهاجس التتابع، هو عمل من الإفراط في التماسك بحيث لا يمكن أن يكون حقيقياً"4]، أما نيتشه فإنه يشكك أن تكون شذراته مفهومة من قبل القراء، فالكثير من النقاد يشككون أصلا في أن نيتشه يرغب بأن يفهمه القارئ. ومن هؤلاء النقاد الدكتورة فوزية ضيف الله حيث تقول: "ما أدرانا أن نيتشه يريد لفلسفته أن تفهم؟ ألا يبدو نيتشه ممن يكتبـون نصوصهم محملـين بتوقعات عدم الفهم"[5].
لكل كاتب أسبابه التي تجعله يختار هذا النمط الكتابي لكن في العصر الرّاهن أصبح هناك تكريس لهذا النّمط الكتابي من خلال وسائل التّواصل الاجتماعي التي تفرض أحيانا عدد كلمات محدد
هذا الغموض بشذرات نيتشه واختياره الأسلوب المقطعي يعزوه سيوران لمرضه[6] وهذا ما تؤكده المؤرخة لو أندرياس سالومي[7] التي كانت تجمعها معه علاقة صداقة، إضافة إلى شاعريته وفلسفته الخاصة، فالشعر بما يتضمنه من لغة مجازية واستعارات لفظية يتناسب مع هذا الشكل السردي.
ولكل كاتب أسبابه التي تجعله يختار هذا النمط الكتابي لكن في العصر الرّاهن أصبح هناك تكريس لهذا النّمط الكتابي من خلال وسائل التّواصل الاجتماعي التي تفرض أحيانا عدد كلمات محدد مثل تويتر.
الشّذرة والحلم
يؤكد الناقد المغربي حسن المودن أن هناك تشابهاً وتقاطعاً بين الحلم والقصة القصيرة جدا؛ فكلاهما يمتاز بالرّمزية والشّاعرية حيث يستخدم كلاهما "آليات التكثيف والتّرميز والصوغ الدّرامي السّريع، وتقول الذاتي والغريب واللامرئي واللاواقع، وتنتهك الحدود بين الواقع والمتخيّل"[8]، ونظرا لأهمية الإيجاز والتكثيف في بناء القصة القصيرة جدا اعتبرها حسن المودن شذرة.
فعند المقارنة بين الأحلام والأفكار التي تتضمّنها "نلاحظ أنّ هناك عملية تكثيف قد أجريت على نطاق واسع: فالحلم مقتضب وهزيل ومليء بالثّغرات، إن هو قورن بسعة أفكار الحلم وغناها"[9]. وهذه نفس مواصفات الشّذرة، إضافة إلى أن فرويد في كتابه "تفسير الأحلام" يرى أنّ النّقطة المشتركة بين الحلم والنّكتة هو أنّ مصدرهما العقل اللّاواعي، وبالطبع فالنّكتة تندرج تحت مسمى القصّة القصيرة جدا.
الشّذرة والعقل اللّاواعي
يؤكد إيكهارت أنّ السوترا: "نقاط إشارة قويّة إلى الحقيقة في صيغة الأقوال المأثورة أو المقولات القصيرة مع القليل من التّحسين المفاهيمي. إنّ (الفيدا والأوبنيشاد) هما أوائل التّعاليم المقدسة المسجّلة في شكل السوترا، بما في ذلك كلمات بوذا. تكمن ميزة السوترا في إيجازها، فهي لا تقوم بتشغيل الذّهن المفكر أكثر مما هو ضروري. إنّ ما لا تقوله، بل فقط ما تشير إليه، هو أكثر أهمية مما تقوله"[10]. وفي موضع أخر يقول: "هذا ليس كتابا من أجل أن تتم قراءته من الغلاف إلى الغلاف ثم يوضع جانبا، بل عليك أن تعيش معه. قم بإمضاء المزيد من الوقت في حمله أكثر من قراءته".
أما نيتشه فقد رأى أنّ فهم كتاباته لا يكون إلا عبر القارئ الماهر الذي يمكنه البقاء مع فقرة واحدة وقتاً طويلاً حتى يفهم"[11]، إميل سيوران أيضاً يرى أن قراءة كتب الحكم والأقوال المأثورة يجب أن يكون في المساء قبل الذهاب إلى النوم ولا يصح أن تقرأ من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، فهذا يولد "الانطباع بفوضى شاملة وانعدام الجدّ".
وهكذا نجد أن الشذرات أو السوترا كما يحب أن يسميها البعض، لا تقوم بتشغيل الذهن أكثر مما ينبغي كما يقول إيكهارت تول، ويحتاج القارئ إلى البقاء طويلا في شذرة واحدة كما يقول نيتشه، ولا يجوز أن تقرأ ككتاب دفعة واحدة؛ إنما تقرأ في فترات الخمول وضعف المحاكمة العقلية كما هو حال لحظات ما قبل النوم كما يؤكد سيوران وإيكهارت.
كل ذلك يولد لدينا انطباعا أن هذه الشذرات أشبه بتعويذة تعمل من خلال العقل اللّاواعي ولا تريد أو ترغب أن تخضع لمعايير العقل الذي لا تخاطبه أصلا، إنها محاكمة للعقل، فهي تطرح سؤالا مفاده: "كيف جاء العقل إلى العالم؟ لقد جاء كما ينبغي له أن يكون بطريقةٍ لامعقولةٍ وعن طريق الصدفة، وإنه لمن الضروريّ تفكيك رموزه كلغز"، كما يرجح نيتشه.
وعلى ضوء ما سبق؛ نجد أن الشّذرة ومضة من ومضات العقل اللاواعي، وهي أشبه بومضات الحلم، تقفز على كل مبرهنة وتأبى أن تكون عقلية، إنها فنّ الاختزال والاختصار وفنّ من عالم آخر، فنّ العظماء، فـ "أقصر طريق في الجبال هي من قمّة لقمّة، ولكن على المرء أن يكون طويل السّاقين. يجب أن تكون الشّذرات هي القمم- والمخاطبون طوالا وعظاما" كما يصف نيتشه. والشّذرة غير معنية بالتّفسير والتّعليل فهي تثير الأسئلة وتتبرأ من أجوبة القراء، تشير للقارئ وتتبرأ من فهم ما أشارت إليه.[12]