تتضارب الآراء وتختلف حول شخصية إشكالية ومثيرة للجدل مثل الرئيس الأوكراني، فبعضهم يصفه بأنه صهيوني براغماتي يحتال على الأحداث ويحاول تطويعها في خطابه الموجه للعالم ولمواطنيه، في حين وصفه بعضهم الآخر بأنه رئيسٌ أرعن قاد بلاده إلى الخراب، غير أن السمة الغالبة في معرض الحديث عنه بين الجماهير المتابعة للسياسة التي تتابع الحدث الأوكراني بشغف، أنه غير مُطَّلع سياسياً ولا ينفع بأكثر من تأدية الأعمال التلفزيونية.
عُرف الرئيس الأوكراني ممثلاً كوميدياً قبل ترشحه للانتخابات الرئاسية التي حصد فيها أصواتاً كثيرة ساعدته في هزيمة خصومه بقوة، واستطاع مستفيداً من معرفة الجمهور به الوصول إلى قلوب فئات أكثر بأسلوبه الدمث الكوميدي والصادق الشفاف إذ استخدم أسلوباً بعيداً عن المصطلحات والتنظير السياسي واقترب بخطابه من الناس العاديين البسطاء.
تبدو تلك الانتقادات متوافقة مع بنية الإنسان العربي إذ لم نتمتع بوجود ديمقراطية حقيقية في بلادنا، فالنموذج الذي عرفناه عن القادة أنهم مبدعون في صناعة الرعب
انعدام خلفيته السياسية لم يكن عائقاً له في أداء مهامه، بل كان ميزة استطاع من خلالها كسب ثقة الشعب الزاهد بالسياسة والسياسيين، حتى بدأ يعلو صوت الجانب الروسي مهدداً ومتوعداً، ثم دُقّت طبول الحرب في نهاية المطاف، فبدأ الخوض بمواصفاته يصبح حديث الساعة للنيل من انعدام خلفيته السياسية والانتقاص من قدراته المحدودة على قيادة العمليات العسكرية، في التزامن مع انتقادات كثيرة طالته بعد اندلاع الحرب بأنه ورط بلاده في حرب غير متكافئة مع قوة عظمى مثل روسيا، وحملوه مسؤولية حرب قد تكون نتيجتها إبادة كاملة للبلاد، غاضين الطرف عن كون الجانب الروسي جانباً غاصباً ومحتلاً ومنتهكاً للسيادة والأهم أنه مجرم حرب ارتكب انتهاكات دولية متكررة وتشهد له بذلك سابقاته في سوريا.
تبدو تلك الانتقادات متوافقة مع بنية الإنسان العربي إذ لم نتمتع بوجود ديمقراطية حقيقية في بلادنا، فالنموذج الذي عرفناه عن القادة أنهم مبدعون في صناعة الرعب يعتمدون خطاباً يستند إلى الشعارات والمصطلحات الفضفاضة التي قد لا تعني المواطن العادي منا بقدر ما تعنيه مشاهدة ذلك بطريقة عملية تنعكس على حياته اليومية، كما أنهم قادمون من خلفيات أمنية وعسكرية ويتسابقون في تقديم التنازلات بهدف نيل الرضا والحفاظ على كرسي الحكم.
عرفت الدول العربية رؤساء من خلفيات مختلفة بعضهم وصل إلى سدة الحكم عن طريق الوراثة أو عن طريق انقلابات عسكرية، إلا أن بينهم صفات مشتركة في العموم بأن لهم خلفية مخابراتية وعسكرية عالمية ومحلية تجعلهم يضمنون بقاءهم في السلطة "إلى الأبد" أو أطول مدة ممكنة، ولا يخفى على المواطن بالطبع كمية المعارك التي ادّعوا الانتصار فيها وخرجوا منها مهزومين، وإمكانية استخدامهم من طرف القوى العظمى لتمرير أي مشروع ولو على حساب شعوبهم وأراضيهم وقضاياهم مقابل الحفاظ على مكتسباتهم في السلطة.
"الرئيس الكوميدي" وفقاً للاصطلاح العام عرضت عليه الولايات المتحدة من اليوم الأول للحرب الخروج عبر ممر آمن لكنه رفض أمنه الشخصي إذا كان الثمن أمن البلاد التي منحته ثقتها والشعب الذي منحه صوته، وكانت الكفة الراجحة أن يكون في مقدمة المدافعين عن البلاد وعدم تسليمها لغزاتها، ولو أردنا مقارنة ذلك بالسيناريو السوري للاحظنا الفرق الهائل إذ استقدم النظام الأسدي روسيا والقوى الإقليمية من أجل الحفاظ على كرسي زعزعته الثورة السورية بشدة بعد عقود من الاستبداد، وربما لم يكن ليبقى حاكماً حتى اليوم لولا وجود كل هؤلاء الغزاة في البلاد.
فضل الرئيس زيلينسكي أن يسكن مع جنوده في الخنادق على أن يتحصن في قصير مشيد ويختبئ خلف جنود قد يعيدهم إلى أمهاتهم في أكفان مثلما فعل النظام السوري، تحلى بموقف رجولي قلما يتحلى به رؤساء آخرون وضع نفسه في كفة شعبه بعد أن خذله العالم وتركه وبلاده وحيدين في فوهة المدفع في مواجهة احتلال طامع بالامتداد والسيطرة، وهو بذلك كسب احترام شعبه سواء اتفقنا معه أو اختلفنا.
لقد امتلأت رؤوسنا بالأحكام المسبقة والصور النمطية وهذا جزء من أيديولوجيا كبرنا عليها في مدارس البعث، متخيلين أن القائد لا يمكن إلا أن يكون عسكرياً صارماً متجهم الوجه
يعيش العالم اليوم حالة من الفوضى الاصطلاحية وأصبح الخلط بين المفاهيم عاماً، لذا لم يعد من الغرابة أن يوصف رؤساء وحكام باعوا قضايا شعوبهم وجعلوا من بلادهم أراضي محروقة بأنهم وطنيون في حين توجه أصابع الاتهام لمن تمسك ببلاده حتى آخر رمق، فالخيانة الحقيقية التي قد يفعلها القادة هي الوقوف في وجه الشعوب أيضاً لا في وجه الغزاة فقط، من جهة أخرى يوصف السوريون بالخونة والمخربين وبأبشع صفات كونهم هربوا من بطش النظام في حين يوصف اللاجئون الأوكرانيون بأنهم ضحايا حرب.
لقد امتلأت رؤوسنا بالأحكام المسبقة والصور النمطية وهذا جزء من أيديولوجيا كبرنا عليها في مدارس البعث، متخيلين أن القائد لا يمكن إلا أن يكون عسكرياً صارماً متجهم الوجه قادراً على بث الرعب في نفوس المحيط، وهذا النموذج المصغر الذي حاكته المدارس السورية طوال عقود من نظام عسكري في الشكل والمضمون.
وعلى الرغم من كل ذلك لا تشفع خلفية الرئيس أياً كانت ومهما كان حكيماً ومغواراً أو خائناً لتجميل صورة الحرب وضمان حتمية الانتصار، وتبقى ذات وصف قبيح ينعكس على الشعوب بقتل وتهجير ونزوح وفقد، لا تحمل الحروب وجهاً كوميدياً ولا مشرقاً ولا يمكن إلا أن تكون تراجيديا سوداء تضع أي رئيس وطني في مواجهة أصعب أدواره على الإطلاق حين تكون خياراً لا مفر منه.