تسارعت في الآونة الأخيرة الأحداث في الحرب الروسية الأوكرانية بشكل خطير جداً، مما سيؤدي إلى تفجر الأوضاع الميدانية واحتمالات أكثر تعقيدًا مما هي عليه الآن، مع استخدام أسلحة جديدة من كل الأطراف، واتخاذ قرارات عسكرية جديدة من القيادة الأميركية لأوكرانيا بالسماح لها باستخدام أسلحة أميركية استراتيجية لضرب أهداف في العمق الروسي. تبعتها أيضًا قرارات أوروبية أبدت استعدادها لإرسال قوات مسلحة إلى أوكرانيا، مما يؤدي لوضع جنود حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مواجهة الجيش الروسي.
هذا سيضع العالم أمام انطلاق جولات جديدة من تصعيد التوتر وتتطلب دقة واهتمامات وإجراءات خاصة مدروسة بعناية من الجانب الروسي، ردًا على التصريحات والتهديدات الاستفزازية التي أطلقها المسؤولون الأميركيون والأوروبيون ضد موسكو، ربما تتعلق بفناء الوجود الروسي.
لم يأت القرار الروسي ببدء الاستعدادات لإجراء تدريبات عسكرية على استخدام الأسلحة النووية غير الاستراتيجية التي كان بعضها ينتشر في بيلاروسيا من فراغ، بل نتيجة استشعار موسكو بتحولات كبرى في انتقال خطة القتال في أوكرانيا إلى استراتيجية تهديد الوجود الروسي، الذي أوشك على استخدام أوكرانيا لسلاح الناتو العضوي الاستراتيجي ووصول بوتين لقناعة بأن البروباغندا الإعلامية التي روج لها إعلامه الروسي بقدرته على مواجهة الناتو من خلال تفخيم الإرث السوفييتي البائد، كانت كذبة أكبر من الجيش الروسي نفسه. حيث فوجئ العالم بعدها بأن روسيا غير قادرة على مواجهة جيش دولة ليست عضوًا في الناتو بغض النظر عن الدعم المقدم لها من الغرب، فالجيش الأوكراني ذو العقيدة السوفييتية الشرقية استطاع بنجاح استخدام سلاح الناتو الغربي والأميركي، وبدا هذا واضحًا في المهارة الأوكرانية على استخدام صواريخ شتورم شودو البريطانية ونبتون التي استطاعت أن تغرق قطعًا بحرية مهمة في الموانئ الأوكرانية والبحر الأسود كـــ البارجة الروسية (موسكافا) أهم سفينة حربية في أسطول البحر الأسود، والخبرة العالية في الاستفادة من ميزات صواريخ توروس الألمانية و(هايميرز الأميركية) والمقدرة على تدمير منظومات بانتسير الروسية، ومطارات على أرض القرم، وسرعة الاستفادة من طائرات الناتو المسيرة في تدمير الأرتال على محاور التحرك والجبهات والتعاون مع الناتو في تطوير الطيران المسير واستهداف أقاليم في عمق الأراضي الروسية.
إن العقيدة القتالية الأميركية في إدارة الحروب اعتمدت في أوكرانيا على تسلسل تكتيكي يبدأ من حرب العصابات وحرب الشوارع وينتقل في نهاية المطاف إلى هدف استراتيجي قائم على مراحل متوالية، تعتمد كل خطة على ما سبقها من إنجازات عسكرية ناجحة استطاعت تحقيقها خلال الفترات الزمنية من الصراع المحتدم والدائم.
أما المرحلة الثانية فقد استندت إلى نجاح المرحلة الأولى في قدرة الهجوم المعاكس الأوكراني على تحرير الأراضي التي سيطرت عليها روسيا وأجبرت القوات الروسية المتوغلة في عمق أوكرانيا على الانسحاب من الشمال الغربي وجنوب الشرق الأوكراني إلى إقليم دونيتسك ولوهانيتسك
لقد كانت المرحلة الأولى من مراحل الحرب في بداية الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية منذ 24 شباط 2022 مرحلة دفاعية بامتياز، اعتمدت بها الاستراتيجية الأميركية على استخدام الترسانة الدفاعية الأوكرانية مع بعض الدعم الغربي الجزئي كـــ صواريخ ستينغر المضادة للطيران، وصواريخ م/د جافلين، ومدفعية ميدان ضد الهجوم الروسي المباغت والعنيف من أجل امتصاص صدمة الهجوم الروسية الأولى، وإفشال الهجوم الروسي الذي انطلق بشكل سريع بداية المعركة الهجومية، واستنزافه على المدى الطويل وهذا ما جرى بالفعل، حيث تدمرت الدبابات الروسية المهاجمة على جبهات القتال وعلى محاور التحرك بصواريخ الـ م/د، وإسقاط حوامات الدعم الناري بالمرافقة النارية طوال فترات القتال التي استمرت لثلاثة أشهر بدا من خلالها الجيش الروسي متقهقرًا أمام ثبات الجيش الأوكراني الذي أثبت صموده وفعالية دفاعه المستميت، وتُوجت نهاية المرحلة بالهجمات المعاكسة في كييف وتشرنيهيف وسومي التي أثبتت مفعولها الناجح.
أما المرحلة الثانية فقد استندت إلى نجاح المرحلة الأولى في قدرة الهجوم المعاكس الأوكراني على تحرير الأراضي التي سيطرت عليها روسيا وأجبرت القوات الروسية المتوغلة في عمق أوكرانيا على الانسحاب من الشمال الغربي وجنوب الشرق الأوكراني إلى إقليم دونيتسك ولوهانيتسك. وبعدها أصبح على روسيا صعوبة في تحرك الجبهات بعد تبدل معادلة توازن القوى والوسائط النوعية، وحصول أوكرانيا على سلاح ثقيل من دبابات ليوبارد وليوبارد (2) وإبرامز الأميركية، وتغيرت فكرة المعركة الأميركية من حالة الدفاع إلى حالة التسليح القوي بالسلاح الثقيل، وبطاريات الباتريوت الاستراتيجية أحد أسلحة الناتو العضوية الفعالة، وصواريخ أرض بحر المضادة للسفن الحربية البحرية.
ما هي ميزات الأسلحة النووية التكتيكية غير الاستراتيجية التي هدد بوتين بالتدريب عليها في المناورات العسكرية؟ فهذه قادرة على الدمار ضمن دائرة نصف قطرها 2 و5 كيلومترات. والقدرة التدميرية نحو كيلو طن واحد أو أقل من المتفجرات، وتحمل عادة رؤوسًا تقليدية مثل الصواريخ المجنحة وقذائف المدفعية، ويمكن أيضًا إطلاقها من الطائرات والسفن. أما القنابل النووية الاستراتيجية التي تصل قوتها التدميرية إلى ألف كيلو طن، فتطلق عادة من مسافات بعيدة عن طريق استخدام الصواريخ البالستية عابرة القارات.
في المقابل، لن تلين عزيمة الدعم الأميركي لأوكرانيا في الحفاظ على التوازن الاستراتيجي وهذا كان واضحًا في تصريحات بايدن عندما قال إننا ندعم أوكرانيا بالسلاح كي تعزز مكانتها على طاولة المفاوضات. لكن هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وهي ضعف الإمداد الغربي الذي تراجع في عام 2023 وأصبحت الكفة تميل لصالح الجيش الروسي، وهذا ما استغله بوتين وقام بهجوم كاسح. مما حدا بالغرب من جديد لإعادة الكرة في اتخاذ قرار سياسي صلب يثبت لروسيا أن الغرب لن يتراجع في دعمه لأوكرانيا وعدم السماح لبوتين باستنزاف أوكرانيا، من خلال موجات الهجوم المستمر، لكن الغرب أعاد التوازن الاستراتيجي مجددًا كي ترضخ روسيا لقبول التفاوض مع أوكرانيا بالتزامن مع تسارع أوكرانيا الخطى لإقناع الدول حضور قمة السلام في منتصف يونيو بسويسرا، وسط اتهامات أوكرانية واضحة للصين بتورطها في دعم روسيا.
لقد جاء القرار الأخير مختلفًا عما سبقه من حيث نوعية السلاح الجديد القادر على مجابهة الحشود الروسية في الأقاليم الأوكرانية التي طُرد منها الجيش الروسي تحت تأثير الهجمات المعاكسة، وتعدى الأمر السلاح التكتيكي إلى سلاح استراتيجي يصل إلى العمق الروسي وإعطاء الأوكرانيين إمكانية قصف أراضٍ معينة في إقليم بلغراد. وبالفعل، حقق الجيش الأوكراني نصرًا كبيرًا باستخدام الطيران الانتحاري لتدمير منظومات جوية في إقليم بلغراد لروسيا، ومطار أنجلس بعمق 800 كم ومشارف موسكو، كي لا يتمكن الروس من إنهاك الجيش الأوكراني، ويتم ضربه في مستودعاته الاستراتيجية ومقاره ومصانعه الحربية في عمقه الاستراتيجي. لأن ضربات العمق الروسي أحدثت ضررًا كبيرًا في الجيش الروسي وأجبرت الروس على إبعاد مناطق التحشد على عمق (300-400) عن الأراضي الأوكرانية كي تصبح نطاق حماية للقوى البشرية والعتاد.
لا شك بأن القادم غامض في حال سمح الناتو لأوكرانيا باستخدام منظومة هايبر والطائرات إف 16 لقصف الأراضي الروسية من السماء وضرب الصواريخ الروسية في السماء. سنكون أمام مرحلة عصيبة ستشهدها الحرب الروسية الأوكرانية، عسكريًا وسياسيًا ومثيرة بعد القرار الأميركي الذي أصبح أكثر وضوحًا وقوة لمجابهة الغطرسة الروسية بهجومها على دول الاتحاد السوفييتي السابق.