تشكل الأسئلة المطروحة في العلاقة بين الديمقراطية والتربية والتنمية محورا مركزيا للحوار، يجب إن يفضي إلى ترسيخ القاعدة الأساسية للديمقراطية، فالمساواة بين الجميع، وحيادية الدولة وفصل السلطات وسيادة القانون، وضمان الحريات العامة والفردية، وحق الاختلاف، هي الأسس التي يستند اليها النظام الديمقراطي.
تلك المفاهيم يجب إن تشكل ثوابت الانتقال إلى الجمهورية الثالثة في بناء دولة المواطنة وسيادة القانون في سوريا المستقبل. في هذا المقال سيتم التركيز على نقطتين أساسيتين وضروريتين لترسيخ النظام الديمقراطي: التنمية الاقتصادية المستدامة، والتربية.
أولاـ التنمية الاقتصادية
أعتقد بأن النظام الديمقراطي يكون عرضة للسقوط، إذا لم يستند إلى نظام اقتصادي يلبي حاجات المجتمع، ويخلق فرص العمل والازدهار للشعب، عبر تبني مشاريع التنمية المستدامة، واستخدام الموارد استخداما رشيدا، استنادا إلى الحاجات المجتمعية، مع الأخذ في الحسبان المحافظة على البيئة ومواردها، لما فيه خير الأجيال اللاحقة. تنمية تقوم على الشراكة، وتساهم في تحقيقها فعاليات المجتمع الذي سيسهل عودة استثمارات السوريين التي انتقلت إلى المنافي، وتقديم الضمانات اللازمة لذلك وتوفير البيئة المناسبة الآمنة لعودة الرساميل والصناعات السورية المهاجرة، بسبب نظام التشليح الذي ميز سلوك السلطة الأسدية التي أوصلت البلاد إلى درجة غير مسبوقة من الفقر والعوز.
تعد المدرسة مختبر تطبيق مبادئ العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والتدرب على الحوار وقبول الاختلاف، وعلى المدرسة إعادة بناء سلوك الفرد على أسس جديدة
كما يجب تشجيع الاستثمارات الأجنبية بما يعود بالمنفعة على الأوضاع الاقتصادية في البلاد. مع الأخذ في الحسبان إن سوريا لديها الإمكانات المتنوعة لكي تحقق نهضة سريعة، خصوصا إذا تم استغلال موقعها الاستراتيجي وأن تتحول إلى مركز أساسي لشبكات النفط والغاز ونقله إلى أوروبا والبحر المتوسط.
إن الازدهار الاقتصادي وحده، يمكن الدولة الوطنية من توفير التعليم المجاني والخدمات الصحية والضمان الاجتماعي لكل سوري بحيث تتوفر له فرص الحياة الكريمة ومتطلباتها المادية اللازمة.
كما إن التنمية الشاملة المتوازنة لجميع المناطق، دون تمييز بين الريف والمدينة، وتركيز الاهتمام على المناطق التي همّشت في المرحلة السابقة هو الطريق لتحقيق العدل والاستقرار والازدهار لجميع السوريين.
يرتبط النهوض الاقتصادي بوضع حد لأساليب النهب والفساد والاستحواذ على ثروات البلاد التي مارسها النظام الأسدي، عبر نظام يقوم على الشفافية والقانون، بحيث يكون الاقتصاد في خدمة التنمية الاجتماعية وتلبية حاجات الناس من مختلف الجوانب، وضمان الحق في العيش الكريم للجميع. يشكل الاقتصاد المتين الذي يحقق العدالة الاجتماعية، القاعدة التي يستند اليها النظام الديمقراطي.
ثانياـ الانتفال الديمقراطي والمسألة التربوية
أصبحت التربية ونوعيتها وأهميتها، ودرجة الإنفاق على شؤونها، مؤشرا على تقدم المجتمعات الحديثة. تشير غالبة تقارير التنمية البشرية إلى تراجع مكانة التربية وتدهور نوعيتها في معظم البلدان العربية. في سوريا، شكلت سنوات الحرب كارثة تربوية حقيقية، إضافة إلى غيرها من الكوارث التي طالت مختلف مناحي الحياة، حيث دمرت آلاف المدارس، وأصبح أكثر من 3 ملايين طفل خارج المدرسة، مما يترك أثرا خطيرا بعيد المدى على الأجيال القادمة.
إن نجاح التحول الديمقراطي وتحقيق إصلاحات عميقة رهن ببناء نظام تربوي حداثي رفيع المستوى، يساهم في بناء جيل يحقق تطلعات المجتمع في إعادة البناء وتحقيق التقدم والازدهار. في سوريا قبل الثورة، تعرض الميدان التربوي، كغيره من ميادين الحياة، إلى مشكلات عميقة ومن تخلف مزمن، وضعف الإمكانات وتدهور مستوى التعليم، وانفصال مخرجاته عن الواقع.
أخفقت المدرسة في بناء التفكير العلمي، وفي تمكين الفرد من امتلاك البنية المعرفية العقلية التي تمكنه من المشاركة في إنتاج المعرفة، وتمثل تطبيقاتها التكنولوجية. وتم توظيف المدرسة لترسيخ الاستبداد وترويض الأجيال عبر تنمية العلاقات التسلطية وسلوك الخضوع والإذعان الذي لا يترك مجالا للحرية أو للمبادرة الفردية، فتحول الطفل إلى كائن سلبي متلق غير فاعل.
أخفقت التربية أيضا، في ربط التعلم بالحياة، بما يمكن الفرد من تمثل مشكلات بيئته ومجتمعه بحيث يكون فاعلا، يتمكن من امتلاك القدرات والمهارات التي تساهم في حل تلك المشكلات، وفي دفع عجلة التقدم والتنمية. كما تم إغفال البحث العلمي المبدع، الذي كان يمكن أن يلبي احتياجات التطور والتقدم، ويساعد في تقديم الحلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. إضافة إلى ما سبق، شكل غياب الحريات، في ظل أنظمة سلطانية قمعية، شكل بيئة غير مناسبة لنمو الابداع، بيئة طاردة للعقول والخبرات المتميزة.
لا يمكن إطلاق عجلة التغيير الاجتماعي – الاقتصادي – الثقافي في العمق من دون اعتماد مشروع تربوي يمكن المجتمع من النهوض والدخول في عالم العصر.
التربية في سوريا بعد الاستقلال
عرفت سوريا حماسا قويا نحو التعليم، وحظيت التربية باهتمام مجتمعي وحكومي في العقد الأول بعد الاستقلال، تواصلت الجهود وتوجت في الزامية التعليم. وكانت المدرسة تفتح أبوابها للتلاميذ صباحا وبعد الظهر بحيث تتراوح عدد الساعات المدرسية بين 7 و8 ساعات يوميا. والكثير من المدارس تفتح بعض شعبها للمراجعة المسائية. استمر هذا الاهتمام بعد انقلاب آذار 1963، إذ أولى البعث في سنواته الأولى، اهتماما خاصا بالتعليم. واستمر هذا الاتجاه، في السنوات الأولى، بعد سيطرة الأسد على السلطة.
في بداية الثمانينيات بدأ الترهل واضحا في التربية التي تأثرت بالفساد الذي اكتسح مختلف جوانب الحياة، حيث تراجعت نوعية التعليم ولم تطبق إلزاميته، كان يمكن ملاحظة مئات الأطفال خارج المدرسة، يعملون في سن مبكرة، خصوصا في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد.
في مراكز المدن، تناوب فوجان من التلاميذ على المدرسة الواحدة، في صفوف مكتظة، ما أدى إلى خفض الساعات المدرسية. وأخطر ما أصاب التربية هو تهميش المعلم ماديا واجتماعيا، ما أسفر عن تردي التعليم كما ونوعا.
فقدت العملية التربوية ديناميكيتها وأصيبت بالترهل والجمود، واعتماد منهج الحفظ والتلقين، بدون الاهتمام بتنمية التفكير والقدرة على المحاكمة. كان يفرض على الأجيال ترديد الشعارات الجوفاء الخالية من المعنى، ويرغم الجميع على التغني حبا بالقائد (الرمز) الذي تحول إلى ما يشبه الإله عبر تقديس بعض صفاته، فهو يمتلك قدرات خارقة استثنائية تفوق قدرات البشر! في هذه المعمعة يضيع العقل والعقلانية ويتراجع التفكير المنطقي ويموت الإبداع.
في بداية الألفية الثالثة، مع وصول الوريث إلى الرئاسة، ازداد الوضع التربوي تدهورا بفعل الطبقة الجديدة المفترسة من رجال الأعمال الشباب، من أبناء المسؤولين السابقين الذين أطلقت يدهم في النهب الممنهج لاقتصاد البلاد وموارد الدولة والهيمنة على جميع مفاصل الحياة، في تجاوز جميع الحدود القانونية والأعراف الاقتصادية والاعتبارات الاجتماعية والإنسانية. تحول الاقتصاد إلى قطاعات خاصة لأهل السلطة، وسيطر منطق الاقتصاد الريعي على منطق الاستثمار والتنمية.
في هذه الظروف أصبحت مصلحة النظام تكمن في التجهيل ونشر الأمية، بحيث يسهل تطويع الناس وإخضاعهم، ويسهل تجنيد العسس والمخبرين والحراس والخدم. تمكن النظام من العمل في سياق طويل لترويض المجتمع وإحكام السيطرة على الجميع عبر المؤسسات التربوية والمؤسسة العسكرية. وأصبحت معايير الولاء للقائد ولأجهزته الأمنية هي الطاغية، وتم التلاعب بالعمل التربوي، فلم يكن ممكنا لمعلم أو مستخدم في المدرسة أن يبقى بعيدا عن الرقابة. وأصبح تعيين المدراء وإشغال الوظائف الوهمية والترقية وتسلم بعض المناصب الإدارية، يتم استنادا إلى مدى التعاون مع أجهزة الأمن التي وضعت العملية التربوية برمتها تحت الرقابة المباشرة. وتعرض الكثير من المعلمين للمطاردة والفصل التعسفي.
تدهور التعليم نتيجة الفساد وعدم توفير المستلزمات الضرورية وتردي وضع المعلم وتهميشه. كما فقد العمل التربوي أهم مقوماته؛ الحرية، حرية التفكير وحرية التعبير والمناقشة وإبداء الرأي، وعدم التسليم بالمقولات الجاهزة. تم العمل على ترويض الأجيال عبر المؤسسات التربوية، وعندما يصل الشاب إلى مرحلة الخدمة الإلزامية، تبدأ مرحلة الإذلال والاستعباد والإخضاع التام.
التحول الديمقراطي يستوجب تغييرا تربويا، بالدرجة الأولى، والعمل بجدية على بناء نظام تربوي حداثي مناسب. إذ يشكل النظام التربوي ركيزة أساسية من ركائز النظام الديمقراطي، يمكنه من التطور والتكيف في ظروف محلية ودولية متغيرة، ويمكن أن يشكل شبكة حماية ضد كل أشكال الدكتاتورية والانحراف، عبر ترسيخ القيم الديمقراطية والمواطنة وإشاعة ثقافة مجتمع الحقوق والواجبات ودولة القانون، دولة تحقق المساواة وتكافؤ الفرص، دولة لجميع أبنائها.
يجب أن يستند النظام التربوي إلى مبادئ الحرية وتنمية التفكير وتعميق القدرة على الحوار والمناقشة، وترسيخ قيم المواطنة وحقوق الانسان، وهذا يستدعي إحداث تعديلٍ جوهري في العلاقات القائمة على التسلطية، والتحول إلى علاقات الحوار والتبادلية، وتفهم الطفل وحاجاته ومتطلبات نموه والإصغاء لما يقول، وإتاحة فرص التعبير الحر وتنمية تفكيره وقدرته على المحاكمة، فالمدرسة الحديثة هي مدرسة تنمية الدماغ، الذي يعتبر القاعدة البيولوجية للتعلم. هي مدرسة تربية السلوك المتصالح مع المبادئ والقيم والمنسجم مع منظومة المفاهيم الديمقراطية.
تعد المدرسة مختبر تطبيق مبادئ العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، والتدرب على الحوار وقبول الاختلاف، على المدرسة إعادة بناء سلوك الفرد على أسس جديدة، أسس من الحرية والقيم الإنسانية النبيلة واحترام حقوق الإنسان ورفض الظلم وإشاعة التعاضد الإنساني بين الجميع.
علينا –كسوريين- بناء المؤسسات، وبوجه خاص، بناء عقلية المؤسسات، فبلدنا تدار حتى الساعة بطريقة المضافات والديوانيات، وليس بوساطة المؤسسات التي تتخذ قراراتها استنادا إلى البحوث والدراسات.
على التربية أن تعيد النظر بكل ما يتصل بالعمل التربوي، بما ينسجم وتطلعات شعبنا نحو التحول الديمقراطي والحداثة وبناء الدولة الوطنية، دولة لجميع أبنائها، تحقق لهم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص. يجب أيضا إعادة النظر بالمناهج وأساليب التدريس وأدواته، وبالعلاقات التي تنشأ بين المشاركين في العمل التربوي. على المربي تقديم النموذج السلوكي والأخلاقي والمعرفي للفرد الذي يحمل مشروع النهضة، والعمل على بناء الشخصية المبدعة الخلاّقة القادرة على انجاز هذا المشروع. فالديمقراطية ليست مسألة سياسية فحسب، بل مسألة تربوية أيضا.