"أردت الوصول إلى أعلى نقطة في فن الرسم، لكنني وجدت أن الخط العربي سبقني منذ زمن طويل" بابلو بيكاسو.
مرّت مراحل إتقان وتطور فن رسم الحرف العربي بآلاف السنين، واعتُبر صورة من صور كلمة الله المنزّلة على عباده، وساعد في الحفاظ على المعرفة والفهم البشري، وكافح من أجل الوجود في العالم الحديث، فتمكن من تجديد نفسه من خلال الفن والطباعة، وحظيَ بالإعجاب والتقدير باعتباره تعبيرا بصريا للإيمان.
نشأة وأصول الخط العربي
فضلت القبائل العربية قبل الإسلام حفظ النصوص والقصائد ونقلها شفويا من جيل إلى جيل، وقد كانت شبه الجزيرة العربية موطنا لمجموعة متنوعة من اللغات السامية القديمة. وفي العصور الجاهلية كانت البدايات للخط العربي.
ويمكن القول إنّ انتقال الكتابات القديمة لمرحلة الأحرف تعود إلى الدولة الفينيقية منذ أكثر من ثلاثين قرناً، وبعدها تفرعت الحروف الفينيقية إلى ستة فروع هي: التدمري، والهندي، والفهلوي، والعبري السرياني، والعبري المربع، والفارسي. وتطور الخط السرياني ونشأ عنه خطّان وهما: الخط الحميري، والخط النبطي الذي تطور إلى الخط العربي.
بدأ التطور الأول للخط العربي والذي كانت البداية الفعلية له في عصر الحضارة الإسلامية، وتحديداً مع بداية رسالة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، فهو أول من عمل على نشر الخط العربي. وعندما نزل القرآن الكريم تم تدوينه على خط الجزم وسمي بالخط المكّي، وكانت أول نسخة مكتوبة من القرآن بواسطة زيد بن ثابت خلال خلافة عثمان بن عفان (644-656م). حيث تمت كتابة هذه النسخة باستخدام خط الجزم، وهو سابق للخط الكوفي.
أول مدرسة للكتابة في الإسلام ظهرت بعد معركة بدر، عندما طلب النبي من الأسرى تعليم فتيان المدينة المنورة الكتابة. وقد عرف العرب في بداية الإسلام نوعين من الخطوط، هما: الخط الحجازي الذي كان يسمى بالخط الدارج، واستخدم في كتاباتهم بشكل يومي نظراً لليونته، إذ يُكتب بشكل عشوائي لعدم خضوعه لأي قواعد، ولذلك لم تُكتَب به المصاحف. أمّا الخط الثاني فهو الخط الكوفي الذي يعد أساس الخطوط العربية كلها، وكان الكتّاب يكتبون به الآيات القرآنية على سعف النخل دون همزات وتشكيلات، وصار يستخدم للكتابة في العصر الراشدي أيضا.
تطور الخط العربي وأنواعه
إلى جانب انتشار الخط العربي جغرافيّاً، تطور الشكل الفني في تطبيقاته الرئيسة. حيث كان الخط المسند والجزم أداة للاتصال والحفاظ على كلمات الله من خلال القرآن الكريم. وبمرور الوقت، أصبح أيضا عنصرا مهما في الهندسة المعمارية والديكور وتصميم العملات المعدنية.
وتطور خط الجزم (المستخدم في بدايات عصر الحضارة الإسلامية) إلى أنماط مختلفة، كالهيري والأنباري والمكي والمدني، ولكنه لم يبقَ لفترة طويلة حيث تطور الخط العربي بمرور الوقت إلى عائلتين متميزتين: الكوفية والدائرية.
ومع تطور الخط الكوفي خلال القرن السابع الميلادي، لعب دورا أساسيا في توثيق القرآن الكريم. واعتبر من أقدم الخطوط العربية التي استمرت في الاستخدام الشائع حيث واصل تطوره خلال الخلافة الأموية (661- 750م) والعباسية (750- 1258م).
في الوقت الذي استُخدم فيه الخط الكوفي لفترة طويلة واعتبر أحد الخطوط الأكثر شيوعا عبر الحضارة الإسلامية، تم تطوير بعض النسخ منه في مناطق معينة، مثل مصر والعراق والمغرب، فظهرت منع أشكال أخرى مثل: "الخط الكوفي السميك، الكوفي المغربي، الكوفي المشرقي، الكوفي الفاطمي، الكوفي المربع".
خلال الدولة العباسية (750- 1258م)، تقدم الخط العربي وتم تطوير خطّي الثلث والنسخ، وشاع استخدامهما لتزيين المساجد وبعض أشكال النصوص. وكان الخطاطون الثلاثة المسؤولون عن هذه التطورات هم: ابن مقلة، ثم ابن البواب (القرن الحادي عشر)، ثم ياقوت المستعصمي (القرن الثالث عشر).
كما تم تنقيح خط الثلث لاحقاً في عصر الدولة العثمانية بواسطة الخطاط "حمد الله الأماسي"، وأصبح أساس الكتابات التي ظهرت لاحقا، مثل جيلي ثلث والنسخ والمحقق، بل استمر تطوره بعناية المسلمين به والتفنُّن فيه، وتعددت أنواعه وكثرت. فمع النسخي والثلث، ظهر الخط الأندلسي وخط الرقعة والديواني والتعليق (الفارسي) والإجازة. وتفرَّع عن هذه الخطوط فروعٌ أخرى جعلت هذا الفنَّ ثريّاً وقادرا على العطاء، والتكيُّف، ليُؤَدِّيَ دوره في كل الأحوال والمناسبات.
كما تفرَّع عن الكوفي غير الذي ذكرناه سالفا، أنواع أخرى أيضاً مثل: الكوفي المورق والكوفي المزهر والكوفي المنحصر والكوفي المعشّق أو المظفر أو الموشح. كما تفرَّع عن الخط الديواني: جلي الديواني. وتفرَّع عن خط الثلث: جلي الثلث. وغير ذلك من التفرعات في مسارات الخط العربي الطويلة والكثيرة. ولكن أشهر أنواع الخطوط العربية المعروفة والمتداولة اليوم ستة، وهي: الكوفي، والثلث، والنسخ، والفارسي، والرقعة، والديواني.
لغات عالمية بحرف عربي
يقول البروفيسور الهندي محمد حميد الله: ليس الأتراك وحدهم من اتخذ الحروف العربية لكتابة لغتهم، بل شاركهم في ذلك معظم الشعوب المسلمة من غير العرب مثل: الهنود والفرس ومسلمي المالايو في جنوب شرق آسيا وكذلك مسلمو أفريقيا وغيرهم.
فقد استطاع الخط العربي في رحلته الطويلة أن ينتشر في كثير من بقاع المعمورة، حيث تلألأ في الجزيرة العربية، وتألقت زهوره في الشام، وملأت عطوره العراق، وفارس والسند وخراسان، واستطاع أن يتغلغل إلى بلاد أرمينية، والقوقاز، وآسيا الصغرى، وأفريقيا والمغرب العربي والسودان، والأندلس وجنوب فرنسا وصقلية، منتشراً كأنه جيش من العلماء الداعين لانتشار الحضارة، واضعاً آثاره الواضحة على كل مظاهر الحياة والناس.
ومن البلدان التي ما زالت تكتب أحرف لغاتها بالرسم العربي: ماليزيا وجاوة ومدغشقر وإيران وأفغانستان والهند وباكستان والمقاطعات الناطقة بالأردية في كشمير وجامو.
كما استعملت روسيا الأبجدية العربية طويلا قبل أن تتحول إلى اللاتينية ثم عدلت عنها إلى السلافية. واستعملت إسبانيا الأبجدية العربية وأفادت منها كثيراً في العصر الأندلسي.
كما أثر الخط العربي أيضاً في الفنون الغربية، حيث يعد الفنان "جيوتو" (1276-1337م) من أوائل الفنانين الأوروبيين الذين استخدموا الخط العربي كعنصر زخرفي في لوحاتهم. كما يوجد في متحف اللوفر بباريس كراسة للفنان "بيزانلو" الإيطالي (1395-1455م) وبه كتابة بالخط النسخي المملوكي، ويتضح أيضا تأثير الخط العربي في لوحة "تبجيل المجوسي" للفنان "جنتلي دافبريانو" (1370-1427م) إذ يزين وشاحا يرتديه أحد شخوص اللوحة بالكتابات العربية. وغيرهم آخرون زينت أعمالهم بالخط العربي وزخارفه، أمثال الرسام الفلورنسي "فيلبوليبي" (1406-1469م) والنحات الفلورنسي أيضا "فيروكيو" (1453-1488م).
من المصادر:
-اصول الخط العربي الحديث: من المسند الى الجزم ، سعد الدين ابو الحب
-تاريخ الخط , حسين علوي مهر
-طريق الخطاط , حسن المسعودي
- مقال - تطور الخط العربي: تاريخ موجزThe Development of The Arabic Script: A Brief History
https://people.umass.edu/mja/history.html