تحفز لفظة "الحكواتي" في مخيلتنا الراهنة صورة تراثية مؤطرة بالتنميط البصري وكذلك التقليدية الفنية والمحدود أو الشعبي على المستوى الفكري. ويلتصق الحكواتي بنوع من الحكايات الشعبية التي لم تعد قادرة أن تحمل إلينا المعرفة أو الجدليات المعاصرة أو حتى على مستوى الجماليات، حيث يحكم على جماليات الحكواتي بالأجواء الاستشراقية.
لكن "الحكواتي" كتقنية مسرحية معاصرة انفتحت على احتمالات لا نهائية في السرد، وارتبط حضورها بما بعد الحداثي، ويكفي أنها تحولت إلى تقنية مسرحية، والتقنية كونها أسلوب سرد فهي بالضرورة قابلة لروي أية حكاية، والتعبير عن أية قضية أو تبني أية مقولة فكرية.
توظيف الحكواتي
لا ينتمي الحكواتي إلى التراث المسرحي، فهذه الممارسة الثقافية سابقة على ولادة المسرح العربي والسوري، لكن المسرحي (أبو خليل القباني) سرعان ما استعمله كتقنية سرد، وكعنصر جمالي و"فرجوي". كما استعمله (سعد الله ونوس) في عدد من نصوصه، نذكر منها: (مغامرة رأس المملوك جابر)، و(سهرة مع أبي خليل القباني). لكن هذا النص يبحث في العلاقة بين الحكواتي المسرحي ومفهوم الثورة عبر أربعة نماذج:
- الحكواتي الثوري الناشط: (خطبة يوم الجمعة، إخراج رأفت الزاقوت، كتابة ساري مصطفى).
- الحكواتي الثورري-الناقد للثورة: (1789، جماعة مسرح الشمس وأريان موشكين).
- حكواتي البروباغندا الثورية: (1793، جماعة مسرح الشمس وأريان موشكين).
- الحكواتي المتمرد على التراث ومسرح اللجوء: (رجاء عيدوا وراي، إخراج وكتابة زياد عدوان).
الحكواتي من المظاهرة إلى الفن
يوظف عرض (خطبة يوم الجمعة/العرس)، إخراج (رأفت الزاقوت) وكتابة (ساري مصطفى) تقنيات مسرح الحكواتي وخيال الظل لرواية الحدث السوري. تفتتح المسرحية بحوار بين راويين حكواتيَّين يتساءلان عن كيفية رواية الحكاية السورية:
"قصتنا قصة وشو قصة، قصة مجبولة بكل غصة،
قصة وحكاية و حتوتة.. عن بنت حلوة وعروسة.
قصة الواطي والعالي.. قصة بلاد وعباد..
قصة أنهار وبحار وزمن دوار.
شمس وليل ، فرج وويل.
عتمة وضي، ولهفة خيّ.. حجر ورمل وفيّ وميّ نابع من قلب الصخرة.
قصة محفوظة برزنامة، قصة مكتوبة بدفتر.
وبآخر ورقة في صورة.. صورة صغيرة مخباية.
وعطرف الصورة في حرفين .. يمكن إن قلتون بتخلص الحكاية .
واتذكر يا سوري ........ أتذكر"
يمتزج أسلوب الحكايات الشعبية بالحدث السياسي الراهن، وتحديداً عن علاقة الحكاية السورية بالذاكرة، حوارات الحكواتيَّين مليئة بالإحالات إلى الواقع السوري الراهن، فيحددان مكان الحكاية: "المكان، على الأرض – تحت السما – جنب المقبرة"، ويضع الحكواتي كرتونة مكتوب عليها حاجز ويبدأ بمد متر وقياس المسافة ليحدد مكان وقوف الحاجز. ويرويان اجتياح الموت للمدينة. ويصدران أصوات رصاص وانفجارات من فيهما. ثم يرويان أن هناك مصابا :"عم يعمل إسعافات أولية. إسعافات أولية- تأمين دم – تأمين طبيب ميداني.. وإخراج الرصاصة وتقطيب الجرح". وهي حكاية المظاهرات السورية التي قوبلت بالعنف.
الحكواتي في صراع السرديات
ويجري كل ذلك في إطار محاولة روي قصة حب بين ولد وبنت، لكن كلما بدأ الراوي بالحكي عن قصة الحب، دخلت الأحداث السورية في عباراته، فيقول الراوي: "صحي والله القصة كلها كانت مشان الخطبة، والحب والمحبة. لتكونوا غيرتو النص وانا مو دريان؟؟ أيا كاتب انت يا مثقف؟ ولا هي ما لازم تخبروني ياها، مو ع أساس إيد وحدة وفرقة وحدة".
ويتم البحث على طول المسرحية عن كيف يتم روي الأحداث الواقعية بالطريقة الأمثل لتستمر في التاريخ، كيف يروى التاريخ، يقول الرواي: "أنا الوحيد يلي فيّ قوي القصة ورجعها تعيش.. وتصير مسرحية عنجد.. مالك ملاحظ قديش ركيكة ؟!"، وتتالى أحداث المسرحية لينشأ صراع بين سرديتين سردية الراوي 1 و2، في إشارة إلى صراع السرديات القائم في رواية الحدث السوري.
أما الحل الأمثل في صراع السرديات، والحل الذي يساعد في الإجابة على أسئلة الروي المعقدة المتعلقة بالذاكرة والتاريخ والحكاية، تخبره لنا في نهاية المسرحية الدمية الصامتة، التي تثبت لنا أن الحل هو بالفن، بالمسرح، بهذا العرض المسرحي تحديداً الذي عشناه للتو، والذي نقل سؤال الحكاية إلينا نحن الجمهور بالكامل بينما ما يزال يدعي إخفاق المحاولات في سردها.
الدمية الصامتة على طول المسرحية تخاطب الجمهور لأول مرة في نهاية المسرحية فقط لتعطي الخلاصة: "وهيك بتكون القصة صارت قصتكون انتو، انتو يلي حملتوها وسمعتوها، أنتو اللي ساعدتوها، سندتوها، رسمتو خطوطها معنا.. وهي هي قصتنا.. قصتنا هي قصتكون انتو.. وانتو ادرى بنهايتها.. مارح قلكون النهاية.. رح خلي النهاية بأيد كلو واحد منكون، فحموها وحافطوا علينا وعليها.. وأي حدا بيحاول أنو يسلخ عنها أي صفحة ويغير فيها أي كلمة، انتو أدرى بالتعامل معو. ولا تنسواااااا لأني هي القصة كلنا عايشين عليها".
توصينا الدمية الصامتة بضرورة الالتزام والحفاظ على الحكاية، ويكشف لنا العرض المسرحي عن دور الفن في ذاكرة وسرد الحكاية.
الحكواتي الثوري:
يتبع (مسرح الشمس) الشهير تحت إدارة واحدة من أشهر المسرحيات الفرنسيان: (أريان موشكين) أسلوب العمل الجماعي، وتقول (موشكين) عن ذلك: "من الطبيعي أن يدخل العمل الجماعي الحقيقي تغييراً جوهرياً على طريقة إنتاج العرض المسرحي". من أشهر عروض هذه الفرقة التي بلغت شهرة أسطورية، يعالج مسرح الشمس في " 1789-1793" أحداثاً عن الثورة الفرنسية، أي أحداثاً ترتبط بالتاريخ، ويثير قضية العلاقة بين المسرح والتاريخ. فمن البديهي، لا يمكن تجسيد التاريخ في أي عمل فني دون تقديم تأويل خاص لهذا التاريخ، لأن فعل الروي بنفسه هو فعل تأويل، فليس لأي عمل فني أن يدعي مقاربته للدقة من غيره لأن أي فعل روي هو فعل تأويل. فقبل ابتكار علم التاريخ، كان التاريخ جزءاً من الأدب.
لم ترغب (جماعة مسرح الشمس) رواية الثورة من خلال السير الذاتية للشخصيات، كما هو الحال في المسرحيات الأشهر التي روت الثورة الفرنسية مثل (موت دانتون، بوشنر)، أو (مارات ساد، بيتر فايس) أو مسرحيات عن حياة روبسبير.
فالتاريخ يجب أن يرويه الشعب لذلك لجأت إلى تقنيات الفرقة، إلى تقنيات مسرحية مستلهمة من الأعياد الاحتفالات الشعبية فحضرت الكرنفال والأهازيج والأغاني، الرقص والبهلوانيات، بينما يكون الحكواتي أساسيا هنا لأنه الوحيد الذي يمتلك قدرة السرد. وبما أن المسرحية عن أحداث تاريخية فلابد أن تروى للجمهور فتدخل تقنية الحكواتي. لكن حكواتي (أريان موشكين) ليس تراثياً، بل ثورياً.
تكتب عنها (سامية أحمد أسعد): "مسرح الشمس لم يتجه إلى تصوير الثورة ابتداء من المعركة التي قادها الأبطال، لم يتجه إلى تصوير الثورة التي سجلها المؤرخون، بل اتجه إلى رواية التاريخ، كما يراه الشعب، الشعب الذي صنعه بأفراحه، وأحزانه، وآماله، وأحلامه، ونظرته الانتقادية، وثقته في أولئك الذين يتحدثون باسمه. أراد العرض أن يبين كيف خدع الشعب، وأن يبرهن على جدية الأسباب العميقة التي أدت إلى انخداعه. ويستمر العرض في جو شبيه بجو مسرح الأسواق. وتتابع المشاهد الطويلة والقصيرة الناتجة عن عملية الارتجال، وتتخللها نصوص مأخوذة من التاريخ مباشرة. وتصحب العرض موسيقا تزيد من تأثيره، لكنها ليست موسيقا تصويرية بأية حال من الأحوال، وهي خالية تماماً من الأناشيد الثورية".
الحكواتي الشعبي في وجه الخطاب السلطوي:
تفتتح المسرحية حين يروي الحكواتي في بداية المسرحية حكاية الحمار المجبر على احتمال الثقل الهائل على ظهره بينما يضربه صاحبه بالسوط، كناية عن الملكية التي تسوط الشعب الفرنسي. يستعمل الحكواتي هنا الأمثولة الشعبية الحمار المثقل بالحمولة، لينقل الوعي السياسي إلى جمهور المستمعين.
ثم يحكي الراوي كيف ضربت المجاعة الشعب، ويؤدي على المسرح تضحية قاسية لعائلات باريسية بأبنائها، فيتم نحرها على المسرح بصورة قاسية كأضحية لأجل الملكية، ويبدأ الملك خطاب التطمين والتخدير، بشعارات مثالية لكن لم تنفذ بالممارسة، خطاباً يشبه خطابات (بن علي وحسني مبارك) للجمهور الثوري: "نريد أن يتمكن كل فرد في أطراف مملكتنا، وحتى في الأماكن المجهولة تقريباً، من أن يوصل إلينا رغباته، بحيث نجد علاجاً فعالاً لآلام الدولة".
مسرح العرائس أيضاً يدخل في رواية الثورة، فالملك والملكية، والقوى الأجنبية وملوكها، وكبار رجال الجيش والكنيسة، ترتدي هذه الشخصيات ثيابا مبالغة تعلن عن تحلل المجتمع الذي تنتمي إليه، إن تحولها هذه الشخصيات بما تمثله إلى دمى رمزي، يقدمها على أنها شخصيات هزلية مفرغة، ومهيبة أحياناً.
الخطاب الثاني الذي يؤديه الملك أقرب إلى خطابات زعماء الطوائف في لبنان، فيقول الملك في المسرحية إلى الشعب: "إذن، أنا الضامن الطبيعي لحقوقكم، ويمكن أن ترتكن كل الدولة إلى عدم انحيازي وعدالتي. وأي شك من قبلكم سيكون ظلماً هائلاً. فأنا الذي أصنع حتى الآن سعادة شعبي". لكن الملك ما يلبث أن يستعين بمرتزقة من دول أخرى ليقمع الشعب الفرنسي، بما يذكر بالمرتزقة في سورية والعراق وليبيا في وقتنا الراهن التي استقدمتها الأنظمة الحاكمة لقمع الشعوب: "أريد أن يحاصر عشرون ألف نمساوي باريس". قال الملك إن الجنود الفرنسيين لا يأتمون فأتى بالمرتزقة من سويسرا والنمسا والألمان ليقمع شعبه في حينها.
يلتزم المجتمع بكل قطاعاته في الثورة حتى أصحاب المتاجر والبنوك، بمعنى أنه حتى الطبقات الاقتصادية الثرية والمستفيدة من الأنظمة الحالية تقف إلى جانب الثورة، ما لم يحدث في الثورة السورية واللبنانية، وعلى إثر ذلك، ينقسم المجتمع: "يرتاع الأخوان دوترنكييه عندما يجدان نفسيهما وجها لوجه، وقد صوب كل منهما بندقيته إلى الآخر".
الحكواتي النقدي في وجه مقولات العنف الثوري
تنتهي المرحلة المثالية مرحلة النشوة الثورية والشعارات الطوباوية، وتبدأ النقاشات الحتمية حول إدارة الحكم ومبادئ القانون، تجري مناقشات شعبية على المسرح حول طبيعة الدستور، هل نضع إعلاناً لحقوق الإنسان في مقدمته، مما يذكر بنقاشات اللجنة البرلمانية السورية الحالية المشكلة من الحكومة والمعارضة: "المادة الأولى: يشعر البشر جميعاً بميل لا يقاوم إلى تحري السعادة، على كل حكومة إذن أن تستهدف السعادة العامة. المادة الثانية: تقوم الحكومة لمصلحة المحكومين لا الحكام. المادة الثالثة: خلق الناس أحراراً ومتساويين في الحقوق"، لكن الحكواتي يتساءل هل يدرك الشعب بأن المساواة والحرية الفطرية، ليس إلا وهم فلسفي؟ وتبدأ أمواج الثورة بالتكسر على صخرة أسئلة الإدارة، الحفاظِ على الملكية الفردية أو إلغائها، إلى أي مدى يمكن ممارسة الحرية اجتماعياً، هذه الأسئلة المعقدة تربك القيادة الثورية فتجد نفسها مضطرة إلى الأحكام العرفية: "لأن الحرية أبعد ما تكون عن الحق في فعل كل شيء، فلا وجود إلا بطاعة القوانين، ولأن هذه الفترات المتأزمة تتطلب مؤقتاً إجراءات غير عادية للحفاظ على الأمن العام والحقوق"، مما يذكر بخطابات الثورات المضادة للربيع العربي.
الحكواتي من الثائر إلى القاتل
المصير المفزع الذي تكرر عبر التاريخ مع انتصار الثورات هو تحولها إلى البطش والعنف، تبني المسرحية بروية خطاب العنف الذي ساد وابتلع الثورة التي تحولت إلى انتقام. يمثل (مارا) نظرية العنف الثوري، الذي كان سؤالاً مطروحاً على كل الثورات العربية، كما جرى نقاشه أيضاً في الثورات اللبنانية، ويتهم (مارا) دعاة السلم بالخونة: "آه لو استطعت أن أترك لطغاة العالم أجمع مثالاً مروعاً للانتقام الشعبي. أقولها بصدق من قلبي، مادامت الحرب الأهلية هي أملنا الوحيد، فمرحبا بها في أقرب وقت". وفي مقطع آخر: "أيها الخونة، تصرخون قائلين أن لابد من تجنب الحرب الأهلية، وأنه لا ينبغي إضرام نار الشقاق والفرقة بين أفراد الشعب".
وتنتهي المسرحية بإشارة واضحة إلى تدرج الثورة نحو البطش والعنف والانتقام. وهذا ما أدى إلى توجيه انتقادات واسعة لفرقة (مسرح الشمس وأريان موشكين) عند تقديم العرض على المسارح الفرنسية، مما يبدو كأن الفرقة أجبرت على تحقيق مسرحية ثانية عن الثورة الفرنسية تمجد بمفاهيمها ومالاتها، ولذلك أتت مسرحية "1793" أقل نقدية من سابقتها عن نفس الموضوع، فاقدة لكامل الأسئلة المعقدة والنقدية للمسار الثوري.
حكواتي البروباغندا الثورية
تحتفي هذه المسرحية بمبادئ أكثر مثالية، ويمجد الحكواتي فيها بقوة الشعب: "سيداتي سادتي مثلنا لكم لتونا كفاح الأقوياء ضد الشعب، وسترون الآن كيف سينظم الشعب كفاحه ضد الأقوياء" مما يذكر بخطب الواقعية الاشتراكية في الفن. وتتركز الثورة في هذه المسرحية على الفقر والطبقية، فيصيح الحكواتي: "نقف نحن هنا، في الطابور، من أجل كسرة من الخبز والطعام متوفر للأثرياء".
يدرك الشعب أن للاستبداد وجوه متعددة بين الملكية والاستغلال. وتدعو المسرحية الشعب إلى الاهتمام بالشأن العام ومراقبة النواب المنتخبين وإبداء الرأي فيهم. وتمتلئ المسرحيات بمقولات عن قدرة الشعب على التوحد: "عندما يقف شعب بأكمله، سرعان ما يتغلب على كل شيء، فلنسرع جميعاً إلى المعركة، وليسقط كل الأنذال"، مما يذكر بشعارات "واحد واحد الشعب السوري واحد"، وكذلك بقصيدة أبو القاسم الشابي التي انطلقت بكثرة مع حركات الربيع العربي.
وتتغير المبادئ الدستورية في هذه المسرحية لتتقلص إلى الطبقية: "المادة الأولى: لا ينبغي أن يوجد بعد الآن أي فرق بين أبناء الملاك الأثرياء وأبناء الحرفيين الفقراء"، وتتجاوز المسرحية مشكلة "المُلكية" التي كانت سؤالاً صادقاً في المسرحية النقدية: "المادة الثانية: لكل مواطن الحق في ملكية صغيرة" فتنفذ اقتراحات اقتصادية مثل تقسيم الأرض إلى قطع متساوية على عدد الأسر، ويتساوى كل الجنود في الأجر وأن تلغى الرتب. بينما يسعى الفرنسيون في هذه المسرحية إلى مراسلة كل الثوريين الأجانب لإرسال آرائهم ومشروعات قوانين من أجل الدستور الجديد، ليتأكدوا من أن دستورهم سيقوم على أفضل إنتاج للفكر العالمي: "يجب أن يكون دستورنا عالمياً، وأن ينطبق على كل الناس وعلى الأرض ويهيمن على جمهورية عالمية تحذف كلمة "الحرب" من قاموسها إلى الأبد. وفي هذه الجمهورية العالمية لن يقوم نزاع على كوكب الأرض"، هكذا بأجوبة قسرية طوباوية تتجاوز هذه النسخة الأسئلة الدقيقة.
ولا يظهر في المسرحية إلا نقد وحيد للإدارة الثورية في رسالة ترسلها زوجة من العامة، فتكتب (روزماري) إلى زوجها الغائب: "زوجي العزيز، في باريس، الثورة بخير ولكنها شيء قاس، ثمن الخبز الآن غير مرتفع، لكنه غير موجود"، في نقد إلى سوء الإدارة التي تلت انتصار الثورة، أسئلة ضرورية حول استمرارية الإنتاج تظهر: "وما دمنا لن نعمل كثيرا، فمعنى هذا أننا لن نعمل من أجل الأغنياء، وهكذا يبدأ عهد المساواة"، لكن يبدأ عهد عدم الإنتاجية في الآن عينه.
وإن كان من مقولة ذات أهمية تتضمنها هذه المسرحية، والتي تنطبق على لبنان والعراق، هي أن يستمر الشعب في مراقبة ومحاسبة نوابهم المنتخبين ما بعد الانتخابات، فيروي الحكواتي ما قاله يوماً (روسو): "إّذا ظن الشعب الإنجليزي أنه حر، فهو مخطئ كل الخطأ، فهو لا يصبح حراً إلا خلال فترة انتخاب أعضاء البرلمان، وبعد انتخابهم مباشرة يرجع عبدا، ولا يصبح شيئا بالمرة. يجب أن يحاسب الشعب مندوبيه على أفعالهم وأعمالهم".
وتنتهي المسرحية بخطاب يبرر الأخطاء الثورية، فيقول الحكواتي في تلخيص الثورة: "إن ظاهرة كهذه لن تنسى أبدا في تاريخ العالم، وإن كانت الساعات الأولى في ظل الحرية لم تبلغ الهدف المنشود، فهي لا تفقد شيئاً من قيمتها لأن هذا الحدث كان هائلاً ومختلطاً بمصالح البشرية ومؤثراً في كل أرجاء العالم، بحيث يستحيل أن تنساه الشعوب في ظروف أخرى، ويستحيل ألا ينتهي بها الأمر إلى تكرار تجربته".
الحكواتي الثائر على الحكواتي
يسعى المخرج (زياد عدوان) في عرضه (Please Repeat After me، رجاءً عيدوا وراي) إلى تفكيك الأساليب والأشكال المسرحية التراثية والراهنة التي تسعى إلى نقل صورة السوري أو الثقافة السورية إلى المسارح الأوروبية. يجاور العرض بين عدة أساليب سردية سادت في تجسيد تراث الشرق. فيوهم العرض بدايةً الجمهور الألماني بأنه عرض فلكلوري راقص.
تظهر فرقة الدبكة التقليدية الشعبية التي ما تلبث أن تتوقف بسبب الأخطاء التقنية، ليخلع الراقصون أزياءهم وتتغير الإضاءة، وهكذا بعد أن يبني المخرج مسرحاً تراثياً فلكلورياً، ينتقل مباشرةً إلى تفكيكه أمام أعين الجمهور، يفكك صورة التراث المكرسة بنمطية، ويبين خواءها وهشاشة عناصر الإيهام التي تستعملها كالأزياء والإضاءة المعينة والتواصل الحيوي مع الجمهور. إنها الإيكزوتيكية أو الصورة الاستشراقية الجذابة فنياً تلك التي يريد العرض أن يدينها. ليصبح الراقصون شخصيات لها حكايات ومونولوجات، ومن بعدها تظهر من خلف الشخصيات المسرحية حكايات الممثلين/ات الحقيقيين الذين يؤدونها في مستوى ثالث من التفكيك.
يقول المخرج (زياد عدوان): "أراد العرض اللعب على الصورة النمطية لأشكال تقديم اللاجئين السوريين على المسارح الأوروبية، واللعب على شكل التواصل مع الجمهور في تقاليد المسرح. لقد لاحظنا تقديم إتباع عروض اللاجئين شكلاً واحداً هو المونولوج، حتى أصبحنا نسميها "نمرة"، أو تحت إطار شهادات اللاجئين، هذا ما ساد في شكل مسرح اللجوء المقدم للمتلقي الأوروبي". لكن المسرحية تذهب إلى نقد أشكال مسرحية متجذرة في التاريخ أقدم من مسرح اللجوء، أنماط الفرق الفلكلورية وعروض الشعوب التراثية التي تتبادلها الدول في المهرجانات، كالدبكة، والرقصات الفلكلورية. ومن بين الأشكال المسرحية التي ترغب المسرحية بتفكيكها، يأتي نمط الحكواتي. لذلك، يمكن القول إن الحكواتي في (رجاءً عيدوا وراي) هو الحكواتي الثائر النقدي على صورة الحكواتي التراثية، الحكواتي في تفكيك ذاته، وفي نقد تاريخ فن الحكواتي.
يقول المخرج: "لشخصية الحكواتي في المسرحية ثلاثة مستويات الأول الصورة النمطية المضخمة، المستوى الثاني العلاقة مع الجمهور فيخاطبهم ويدعي الانتماء إلى الجمهور وليس إلى شخصيات المسرحية، بينما هو الأكثر نمطية من بين كل شخصيات المسرحية. والمستوى الثالث مستوى العلاقة مع المسرح، أي العلاقة النمطية بين الحكواتي والجمهور".
حكاية شخصية الحكواتي في هذه المسرحية مليئة بالدلالات كما يرويها الممثل التي قام بأدائها (شادي علي)، الذي يقول عن حكواتي هذا العرض: "هو دخيل على العرض، لم يستطع القدوم إلى المسرح بسبب الفيزا، فيرسل حكايته مسجلة عبر فيديو، لأنو قصتو لازم تحكى منو شخصياً، فهو الحكواتي الوحيد يلي بيكتب بالإنكليزي من حكواتية الشام. وبسبب الأخطاء التقنية يستحيل على الحكواتي متابعة حكايته عبر الفيديو، وفجأةً، يدخل من خلف الستارة إلى خشبة المسرحية، في حال من الفرح يستقبله الجمهور". هذا الانتقال من الشاشة الضوئية إلى التجسد المباشر على المسرح وطريقة دخول الحكواتي الاستعراضية دفعت الجمهور المسرحي في أغلب العروض للتصفيق. لذلك يعتقد الحكواتي أن الجمهور يحبه، يستمد استمراريته من تفاعل الجمهور معه. وطيلة المسرحية هو يلتزم بالصورة النمطية المكرسة للحكواتي، بأزياء تراثية وعكاز وبكتاب مفتوح في يده يهم بالقراءة منه بين الحين والآخر دون أن ينجح بإكمال حكايته، يحاول أن يفرض أسلوب سرده وبصرياته التراثية على كامل العرض. ويمنحه تفاعل الجمهور معه دافع التسلط على باقي شخصيات المسرحية، يتحول أنانياً انتهازياً غير مبالٍ بأية أحداث أخرى من حوله في صالة المسرح متجاهلاً رغبات الشخصيات في روي حكايتها أيضاً. ثم يترك الخشبة ويتوجه إلى الصالة حيث يخاطب الجمهور، محاولاً إقناع الأوروبيين بأنه الأكثر أصالةً، هو حامل حكاية سوريا الحقيقية، حكاية "بلاد كل الأسرار". ويرفض أن توزع حكايته مطبوعة على الجمهور، فالحكواتي هو طريقة قول وسرد، حين توزع حكايته على الجمهور يلم الأوراق وهو يقول: "أنا برويلكم ياها أحسن بمية مرة".
يتابع (شادي علي): :الحكواتي يتورط في منافسة تقديم صورة الثقافة السورية إلى الجمهور الأوروبي، فيشعر بأنه المسؤول عن تجسيد الصورة الحقيقة عن سوريا. يتحول إلى المبالغة بالاستعراض، ثم يأخذه الانفعال ويترك المسرح لجلب حلويات البرازق للجمهور الحلويات الشعبية التي تلتصق أكثر منه بالصور التراثية الشرقية. في أثناء خروجه، يرتدي ممثل آخر لباس الحكواتي ويؤدي مكانه، تفصيل يقدمه المخرج لتفكيك "عدة الشغل" بمعنى الأزياء، الهيئة، طريقة الجلوس، إنها show، يفكك إلى عناصر بصرية وأدائية. ويصبح أمام الجمهور حكواتيان يرتديان الملابس نفسها بالكتاب والعكاز، إنه استنساخ الصورة النمطية أمامنا على المسرح.
الحكواتي الحقيقي هو المخرج
يبدأ صراع عنيف بين الحكواتي الأصلي والمزيف، وهنا يتم الإسقاط على الصراع الأهلي في الراهن السياسي السوري، من يمثل سوريا في الوقت الراهن بالنسبة للأوروبيين؟ وإذا استعملنا لغة السياسة مسابقات النظام والمعارضة إلى تمثيل سورية تخلق العنف على المسرح، يتقاتل الحكواتيان أمام أحقية أي منهما لتمثيل سوريا أمام المتلقي الغربي. لتبرز جملة في العرض كأنها مقولة ملائمة بين أطراف الصراع السوري، فيعاتب الحكواتي الأصلي النسخة عنه: "كيف تشرع بالعنف وأنت تعرف ألا أحد سيهم ليفرق بيننا أو يوقف الصراع؟". وفي النهاية، حين يخلو المسرح للحكواتي الأصلي وحده، ويرتب العلاقة مع الجمهور ويهم بروي حكايته، يظهر مخرج المسرحية لينهي العرض في هذه اللحظة، ليبين بأن سلطة المخرج هي التي تقود الأشكال السردية كلها، وأن أي عرض مسرحي خاضع لإرادة صانع العمل، وإننا كجمهور خاضعون لتقاليد المسرح التي تمنح المخرج سلطة مطلقة في إنهاء المسرحية.
نضيف أخيراً، حكاية أخيرة رواها لنا الممثل والموسيقي (شادي علي) في تجربة أدائه لحكواتي (رجاءً عيدوا وراي)، وهي حكاية حقيقية جرت في أثناء العروض تدل على قوة تأثير الحكواتي بالجمهور، ففي أحد أيام العرض رفض الجمهور سلطة المخرج بإنهاء العرض وطالبوا الممثل بمتابعة الحكاية، وأيضاً يقول (شادي) بأنه شعر كممثل برغبة التمرد على إرادة المخرج، لكن المخرج أصر على إنهاء العرض في اللحظة المستفزة، والتي دونها يفقد العرض أبرز مضامينه، فما كان من الممثل-الحكواتي-شادي أن وعد الجمهور بأن يتابع الحكاية غداً في الساعة الثالثة في المسرح ذاته.
هكذا توّلد الحكاية الحكايات، ولا يخضع الجمهور في المسرح لشرط اللعبة المسرحية إلا لأنهم يسهمون في كل عرض يمارسون فيه طقوس التلقي المسرحي، باستمرارية الطقس المسرحي عبر التاريخ. أما الحكواتي، فالحكاية هي كل أسراره ومصدر جاذبيته على المستمرة على حضارات الشعوب التي استمرت تبتكر الأشكال الفنية لسرد الحكاية، ومنها تقنية الحكواتي القادرة على أن تحمل مضامين لا نهائية، هي مضامين أي حكاية أو قضية ممكن للفكر تخيلها. لذلك، يُخلد الحكواتي عبر التاريخ، لا بل إنه قادر على حكاية التاريخ، فالتاريخ بالنسبة له حكاية-حدوتة.