عندما وصلت إلى آخر صفحة من مذكرات وزير الخارجية السوري السابق "فاروق الشرع"، والذي يحمل عنوان "الرواية المفقودة"، أحسست بخيبة شديدة؛ لأنني ببساطة شديدة كنت قد قرأت غلاف الكتاب ومقدمته، ومنيت نفسي بكتاب يُمكن أن يُقدم بعض المعلومات الموثّقة، حول مرحلة مغيبة عمداً من تاريخ سوريا، لكنني اكتشفت أن أي صحفي نشيط ومتابع، يُمكنه أن يكتب ويوثق الفترة إياها على نحو أكثر غنىً ودقة مما فعله فاروق الشرع، وهو الذي أمضى ما يقرب من ثلاثة عقود في الخارجية السورية، منها اثنان وعشرون عاماً وزيراً للخارجية.
ندمتُ على الساعات التي أمضيتها في قراءته، أعدت الكتاب إلى مكانه في المكتبة، وجلست أفكر في إحجام المسؤولين العرب عن كتابة رواية عربية حقيقية لما يجري، وبعد دقائق اكتشفت أن ما لم يقله فاروق الشرع في كتابه، هو أهم بكثير مما قاله، فعدت إلى الكتاب مرة أخرى، لا لأعيد قراءته، بل لأقرأ ما لم يقله.
إذاً لستُ هنا لأتحدث عن وقائع الكتاب وتفاصيله، بل لأتحدث كيف كشفت مذكرات فاروق الشرع بنية الدولة السورية، وكيف كانت تُدار سوريا، وكيف كانت تتخذ القرارات فيها.
على مساحة ما يقرب من خمسمئة صفحة هي عدد صفحات الكتاب، لن تجد أي ذكر للشعب السوري، إلا في مرحلة شباب فاروق الشرع، أي فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، في تلك الفترة كان للمظاهرات دورها السياسي، وكانت السياسة لعبة الجميع، وليست حكراً على الوجهاء والزعماء والأحزاب، لكنه وبعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة، لم يعد للشعب السوري أي حضور في الحدث السوري، وطوال صفحات الكتاب لا يمكننا أن نقرأ سطراً واحداً عن تأثير ما لهذا الشعب في أي قرار، في الوقت الذي يحضر فيه مثلا الشعب "الإسرائيلي"، والأميركي، والفرنسي ليس في الانتخابات فقط، وليس في انتظار القيادات السورية لنتائج هذه الانتخابات، كي يعرفوا كيف ستتجه السياسة في تلك الدول، بل أيضاً في تعثر السياسة أحياناً في تلك الدول، بسبب الخوف من تصاعد رأي عام مضاد.
لم يغب الشعب السوري وحده من رواية الشرع المفقودة، بل غابت مؤسسات الدولة الأخرى، غاب "مجلس الشعب"، الذي لم يضطر الشرع لذكره أبداً، وغابت "المحكمة الدستورية"
لم يأتِ فاروق الشرع على ذكر أي حدث داخلي، فلم تحضر حماة ومجزرتها - مثلاً- أبداً في كتابه، ومن البديهي أن دولاً كثيرة ولقاءات كثيرة سُئل فيها عما جرى في حماة، بينما كتب عن وفاة باسل الأسد، وكتب عن ترحيل رفعت الأسد، وكتب مراراً عن المنافسة بينه وبين عبد الحليم خدام.
لم يغب الشعب السوري وحده من رواية الشرع المفقودة، بل غابت مؤسسات الدولة الأخرى، غاب "مجلس الشعب"، الذي لم يضطر الشرع لذكره أبداً، وغابت "المحكمة الدستورية"، والتي يجب أن يحال لها أي مشروع اتفاق مع دولة أخرى، وخصوصاً الاتفاقات المتعلقة بالحدود والسيادة والجغرافيا السورية، والتي تحتاج إلى مراجعة دستورية وموافقة الجهات المخولة بحماية الدستور، أما الجبهة الوطنية التقدمية فقد كان حضورها مضحكاً، وبوضوح قالها الشرع إنها لم تكن إلا هيكلاً يُستدعى أحياناً كشاهد زور، باختصار غابت كل المؤسسات المختصة، وحده حافظ الأسد كان المرجعية الوحيدة التي تقرّر كل شيء، من رسم حدود سوريا، حتى تفاصيل جنازة باسل الأسد.
في روايته المفقودة، يُخبرنا الشرع أن كل ما يهمك كدبلوماسي سوري هو أن تتصرف بتعليمات حافظ الأسد، وإن اضطررت لاجتهاد ما، ولم تتمكن من استشارته لضيق الوقت، أو لسبب ما، فإن أكبر أمنياتك أن تنال رضاه لاحقاً، مثل تلميذ ينتظر نتائج اختبار له. المضحك والمبكي في الأمر، أن حافظ الأسد لم يكن يمنح أحداً من موظفيه أكثر من درجة مقبول.
باختصار ليس هناك دولة، ليس هناك استراتيجيات وسياسات مقرّة، وعلى العاملين في كل مؤسسات الدولة العمل وفقها، فقط هناك مرجعية وحيدة، إنها مرجعية حافظ الأسد.
يوضح كتاب الشرع للقارئ أيضاً، كيف كان يتعامل حافظ الأسد مع أفراد الطاقم الذي يدير "الدولة"، وكيف يربط خيوط هذه الإدارة به، ويمنعها من أن تتقاطع بعيداً عنه، ولهذا فإن مرجعية فاروق الشرع عندما كان وزير دولة للشؤون الخارجية، لم تكن وزارة الخارجية، ولا وزير الخارجية الذي كان يومئذ عبد الحليم خدام، حتى لتحسب نفسك أنك أمام وزارتين للخارجية، من يحدد عمل ومهام كل منها هو حافظ الأسد.
في الصفحة (135) من الكتاب، يتحدث الشرع عن اللقاء الأول الذي جمع غورباتشوف بحافظ الأسد فيقول:
كان اللقاء الأول بينهما ودياً، وخرج الرئيس - أي حافظ الأسد - منه مرتاحاً، ولم يعتبر أفكار غورباتشوف في الانفتاح السياسي والاقتصادي غريبة عنه، بحكم انتهاجه لها منذ قيام الحركة التصحيحية عام 1970م، واقتصر تعليق الأسد على نقطة ألخصها بقوله: "إن قيام التنافس بين قائمتين في الحزب شيء جيد، ولكنه سيعني حتماً الانقسام إلى حزبين، وإن تجربة حزب البعث في الستينيات، تُعطي دليلاً على ذلك. لكن الإصلاح في الحزب والمجتمع ضروري في إطار جبهة وطنية واسعة، وهذا ما جاءت به الحركة التصحيحية في سوريا".
المدهش في ما كتبه الشرع، ليس إيراده لنصيحة الأسد لغورباتشوف، فالأسد بالتأكيد يعدّ نفسه أحكم حكماء العالم، وكذلك يراه الشرع، لكن لا أدري كيف رأى الشرع أن أهم ما في هذا اللقاء هو هذه النصيحة (الفضيحة) لرئيس بلد محكوم منذ أكثر من نصف قرن بحزب واحد، وليس فيه أي حياة سياسية، فعن أي جبهة واسعة يتحدث حافظ الأسد !.
الشرع يخبرنا بكل وضوح في كتابه "الرواية المفقودة"، أن سوريا طوال حكم عائلة الأسد لم تكن دولة، وأن كل الأسماء التي تُذكر على أنها كانت في الصف الأول، لم تكن أكثر من موظفين في مزرعة تديرها عائلة الأسد
في الصفحة (348) من الكتاب، يتحدث الشرع عن "قمة صنّاع السلام" التي انعقدت في شرم الشيخ بمصر آذار 1996م، ولم تحضر سوريا يومئذ تلك القمة، التي حضرتها دول من كل أرجاء العالم، وشاركت فيها 13 دولة عربية، وبغض النظر عن مدى صحة أو خطأ المشاركة، فإن ما يلفت الانتباه هو رؤية فاروق الشرع الصائبة حول أن ما يدفع الشبان الفلسطينيين إلى الموت بهذه الطريقة الانتحارية، هو الحرمان من وطن يعيشون فيه بكرامة، لكن المفارقة أن الشرع رأى الفلسطينيين الذين يبحثون عن كرامتهم، ولم يرَ يومئذ ملايين الشباب السوريين الذين يبحثون عن كرامتهم في وطنهم.
باختصار، فإنّ الشرع يخبرنا بكل وضوح في كتابه "الرواية المفقودة"، أن سوريا طوال حكم عائلة الأسد لم تكن دولة، وان كل الأسماء التي تُذكر على أنها كانت في الصف الأول، لم تكن أكثر من موظفين في مزرعة تديرها عائلة الأسد.
هل تتخيلون معنى أن ترتبك "دولة" بكل مؤسساتها ورجالاتها عند مقتل باسل الأسد في حادث سير، في مواجهة سؤال سخيف:
من سيخبر حافظ الأسد بموت باسل؟!