في هذا المقال الأخير من سلسلة الجيش السوري قبل الوحدة أسعى إلى تلخيص وصياغة استنتاجاتي البحثية بعد دراسة هذه الحقبة بشكل تفصيلي، من خلال مذكرات الضباط والسياسيين السوريين عن تلك المرحلة، فالمذكرات والسير، كما يرى وجيه كوثراني، مرآةً للتاريخ الذاتي للأفراد الفاعلين المؤثرين، وأن التفاصيل، والأشياء الصغيرة الواردة فيها، تشكِّل متراكمةً مع بعضها، الحدث، ما يعنى وجوب التعاطي معها كـ "وثيقة تاريخية"، نخضعها للدراسة والتفسير والتأويل؛ لتصبح معطىً من معطيات المعرفة التاريخية"، وهو محاولة لدفع الباحثين أكثر إلى الانشغال بهذه المذكرات والسير للفاعليين بدلًا من إعادة تدوير ما تنتجه الأدبيات الغربية عن جيوش منطقتنا.
بعد دراسة الجيش السوري في الفترة 1949-1958؛ أي من انقلاب حسني الزعيم إلى اندماج الكيان السوري بمصر في "الجمهورية العربية المتحدة"، من خلال التركيز المكثف على فترة 1954-1958، وبعد النظر في الأدبيات، التي سعت إلى تحليل أسباب انحسار ظاهرة الانقلابات العسكرية في المشرق العربي، وعلى وجه التحديد الحالة السورية، توصّلت الدراسة إلى قصور هذه المسببات في فهم انحسار الانقلابات في سوريا بين عامي 1954-1958، ولا يُختزَل القصور على هذه الأدبيات فحسب، بل اختزالٍ أكبر وأعمق في دراسات التاريخ السوري. وثمة فجوة أخرى وقعت فيها هذه الأدبيات متجمعةً – التاريخ السوري، والعلاقات المدنية – العسكرية- هي انعدام الانشغال بالمؤسسة العسكرية وعلاقات القوة القائمة داخلها من خلال البحث في الوحدات العسكرية، أي الخلفيات العسكرية للضباط، وجاء ذلك على حساب الانشغال بتحليل الخلفيات السوسيولوجية، وهو ما هدف إليه بحثنا، عبر سد الفجوات النظرية والتاريخية لهذه الأدبيات بالتركيز على العلاقات السببية بين العامل، الذي طرحناه في سلسلة المقالات السابقة، وبين قرارات الفاعلين العسكريين والسياسيين في التاريخ السوري. وعليه نتوصل ونلخص التالي:
أولًا، من خلال البحث في السلاح الذي يقود العمليات الانقلابية في سوريا قبل مرحلة 1954، وخلفيات كتل الضباط في المرحلة التعددية، يُمكن القول بأن حقبة التعددية السياسية بعد سقوط نظام الشيشكلي كانت نتيجة تكافؤ الأجنحة السياسية العسكرية في سلاح المدرعات، وهو السلاح الذي حمل لواء التنفيذ والتخطيط لكل انقلابات سوريا في الفترة 1949-1961. واستكمالًا لحالة التوازن العسكري، ساهم اتّسام انقلابات الجيش باللاعنف مساهمةً فعالة في كبح جماح الكتل والأجنحة المتصارعة في الجيش عن الانجرار إلى حركات انقلابية يمكن أن تقود إلى سفك دماء جنود وضباط، بل ومدنيين سوريين. بناءً عليه، يُمكن التوصل إلى أنّ التوازن العسكري بين أجنحة الجيش السياسية في القوات المسلحة يفسر انحسار الانقلابات خلال الفترة 1954-1958، كما يمكن اعتباره أحد آليات الوقاية من الانقلابات العسكرية. لكنها آلية غير مخلوقة عبر سلطة أعلى، أو آلية مصممة من فاعل محدد، بل آلية طفت على السطح نتيجة ظروفها السياسية وحالة الانشطار الحاد في صفوف الجيش والسياسيين في العلن.
قدمت حالة التوازن العسكري نافذةً زمنية مكنت القوى المدنية من ممارسة عملها السياسي في الدولة، وممارسة بعض مظاهر الديمقراطية الإجرائية
ثانيًا، تتيح فكرة التوازن العسكري إمكانية التفكير بإصلاح المؤسسة العسكرية ديمقراطيًا من داخلها، أي حلولًا قد تقع من المؤسسة العسكرية ذاتها وليس من المؤسسة المدنية فحسب، لكن ذلك لا يعنى أن ما وقع في سورية آنذاك يعنى أن البحث يراه حلًا، ولكنه يفتح احتمالية البحث في حالات تاريخية أو راهنة عن آليات للدمقرطة من داخل القوات المسلحة.
ثالثًا، بسبب حالة التوازن العسكري بين قطاعات الجيش المتنافرة على أسس أيديولوجية وتحالفات سياسية، واتسام انقلابات سوريا ما قبل 1963 باللاعنف، حُيّدَ العامل الخارجي، أو بالأحرى بات تأثير وجود دعم دولي لانقلاب عسكري ما هامشيًا. ففي سوريا سعت العراق ومصر وبريطانيا والولايات المتحدة وأطراف دولية وإقليمية أخرى، إلى دعم انقلابات عسكرية لصالحها عدة مرات، إلا أنها فشلت.
الحركات الانقلابية هي عمليات ميدانية ومسرح عمليات في آن. وبالتالي إذا ما أراد أي طرف دولي أو إقليمي دعم أحد الأجنحة ضد أخرى للقيام بعمل انقلابي، فكيف سينجح إذا كان الطرف المدعوم بغطاء دولي وبدعم مالي، متساوي مع خصومه على الأرض في القوة العسكرية، ولا يملك القوة الكافية التي تمكنه من إنجاح العمل الانقلابي. إن قوة الأطراف الخارجية البعيدة، لا تعادل أبدًا القوة المرئية والمحسوسة.
رابعًا، قدمت حالة التوازن العسكري نافذةً زمنية مكنت القوى المدنية من ممارسة عملها السياسي في الدولة، وممارسة بعض مظاهر الديمقراطية الإجرائية، كالعملية الانتخابية البرلمانية والرئاسية، فأي عرف أو مؤسسة ديمقراطية محكومة بالوقت، الذي يجعلها تتطور من خلاله. إلا أن الفترة ما بين 1954-1958 كشفت عن خلل بنيوي في المنظومة السياسية السورية في حينه، هو ضعف النخب السياسية وتشتتها، وانحرافها عن تثبيت التجربة التعددية، وتحويلها إلى ديمقراطية حقيقة. إذ كان بإمكان القوى السياسية، الأيديولوجية تحديدًا - إذا ما افترضنا أن لها أجندة ديمقراطية بالفعل - أن تحجم من دور الجيش وتدخله في الحياة السياسية، فهذه القوى التي امتلكت أجنحة وازنة عسكريًا لها سلطة الأيديولوجيا على الضباط الموالين لها داخل القوات المسلحة، فالأيديولوجيا حالة تتملك الفرد وتجعله منصاعًا للقادة، سواء كانوا عسكريين أم مدنيين، لكن المهم هو أنها أيديولوجيا تحوز على معتنقها. فمثلًا، كان بإمكان السياسي الشعبوي والديناميكي أكرم الحوراني (بلغة حازم صاغية) - الذي تمتع بسلطة الخطاب والكاريزما على قواعده الشعبية في صفوف المدنيين والعسكريين وتفرد بتوريطه للجيش في السياسة - لو كان ديمقراطيًا أن يساهم في اصلاح العلاقات المدنية – العسكرية، ويرسخ من تجربة سوريا التعددية. فالزعيم وصاحب الكاريزما يمكنه إعادة تعريف المعايير، وتغيير قواعد اللعبة دومًا، ولا يمكن لمن هم أدنى منه في تسلسل القيادة ممارسة السلطة إلا بادعاء الامتثال لمعاييره. وكذلك العقيد عدنان المالكي لعب دورًا "ديمقراطيًا" لفترة قصيرة من الزمن، لكنه سرعان ما تم اغتياله. بالتالي يقدم التوازن وصراع الأجنحة السياسية في الجيش مرحلة زمنية، أي فرصة سياسية، تمكن من اصلاح المؤسسة العسكرية ديمقراطيًا وإلى استدامة مرحلة التعددية السياسية، لكنها مشروطة بتوفر نخب سياسية ديمقراطية.
خامسًا، في أن صراع الأجنحة يولد حالة من فقدان السيادة. فقد رأى عدد من الباحثين أن علة العلل في سوريا الاستقلال هي تشتت "هوية" التيارات السياسية نتيجة اختلاف المرجعية الفكرية (المشروعة)، واختلاطها بعلة العشائرية والإثنية على أرض الواقع، وتعارض مصالح البرجوازيات الجديدة الحاكمة والبرجوازية ذات الأصول الإقطاعية، ولا يستثنى من ذلك صراع الكتلتين الدمشقية والحلبية، وبالتالي أبقت مسألة الهوية والانتماء الوطني موضوعًا للانقسام والتناحر بين الأحزاب السياسية، وهو ما لم يسمح بالاتفاق على قواعد إدارة العملية السياسية، وبناء مؤسسات دولة جميع المواطنين. ما يبنى على هذا الرأي كذلك، أن هذا التناحر والتنافر السياسي الذي كان الجيش جزءًا رئيسًا فيه هو ما جعل سورية في مرحلة تعدديتها السياسية تفقد ركنًا أساسيًا من أركان الدولة، ألا هو سيادة قرارها السياسي على الصعيد المحلي والخارجي، على اعتبار أن مفهوم السيادة مفهوم شَرطي لتكون الدولة دولةً. فقد خضعت سورية نتيجةً لهذه التحيزات والانتماءات (الطبيعية) لرغبات وتفضيلات قوى إقليمية ودولية، كما تبين في تشكل الحكومة الأولى بعد سقوط الشيشكلي، والتي استُبعد منها البعث لتخوفات عراقية، كما سُحب تأييد الجيش لخالد العظم في الانتخابات الرئاسية نتيجة الانزعاج الأميركي من العظم إثر سعيه إلى توطيد العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، وكذلك يدخل في ذات الإطار الخضوع لشروط عبد الناصر من أجل الوحدة معها.