"قبل ثلاث سنوات تقريبًا كنت مسافرًا على الطائرة العراقية إلى براغ، وعندما وزعت المضيفة علينا بعض الجرائد قرأت خبراً بارزاً عن نزال محمد علي كلاي المرتقب آنذاك. فتناولت أقرب ورقة إلى يدي، وكانت ورقة نشاف صغيرة وبدأت أكتب مطلع القصيدة:
يا مطعم الدنيا وقد هزلت
شحمًا بلحمٍ منه مقطوبِ
ومشيت بها بيتًا بعد بيت، حتى حطّت بنا الطائرة فنسيتها تماماً، إلى ما قبل فترة قصيرة حين طلبت مني اللجنة المكلفة بإعداد ديواني كل قصائدي غير المكتملة فعثرت على تلك الورقة المهملة التي قرأها أحد الأصدقاء، فقال لي: هل هذه قصيدة تُترك؟
وعدت إلى البيت، وسهرت الليلة مع انفعالاتي، ودون أي تعب وبكل سهر لذيذ أكملت القصيدة مع الضحى، وظهرًا كنت أتلوها على مسامع ذلك الصديق" (محمد مهدي الجواهري- جريدة الأنباء/1977).
كانت قصيدة محمد مهدي الجواهري في محمد علي كلاي التي جاء في مطلعها "شسع لنعلك"، أو كما كتبت أول مرة "حيث تضيع المقاييس" 1973، قد أحدثت ضجة كبيرة في عالم الصحافة والأدب، خاصة بعد نشرها في جريدة "الثورة البغدادية"، عام 1976، يومئذ قد قامت الدنيا احتفالًا بانتصارات كلاي المتتالية وتوجهت عدسات الكاميرات إليه وتسابقت الصحف والإذاعات والقنوات لنقل أخباره، وإجراء المقابلات.
أمام هذا الحدث الذي حرّك أوجاع الجواهري في انزواء مواهب الفكر والعقل والكتابة والاختراعات، وبروز مواهب الصفع والقبضات الحديدية يكتب الجواهري أبياته التي بدأها على بطاقة دخوله الطائرة والتي كانت تشير إلى الدرجة الاقتصادية، ولعل هذا ما أثار سخط الجواهري أكثر، يقول مخاطبًا محمد علي كلاي:
شسعٌ لنعلك كلّ موهبةٍ
وفداء زندك كلّ موهوبِ
وصدى لهاثك كلّ مبتكرٍ
من كلّ مسموعٍ ومكتوبِ
شسعٌ لنعلك كل قافيةٍ
دوت بتشريقٍ وتغريبِ
ومع معاناة الجواهري وحسرته على مجتمع يقدّم ثقافة العنف على ثقافة الأدب، يصف مشجعي البوكس والعضلات والرفسات في النزال كهراش الديكة الدموي، كما يصف الذين يصدون عن مواهب العلوم وما ينتجه عباقرة بلادهم فيقول:
يصفقون لمحربٍ شرس ٍ
ويبصقون بوجه محروبِ
يذكي الهراش حماسهم طربًا
لدمٍ بعرف الديك مسكوبِ
كلاي، مجّد ذراعك إنها هبةٌ
أغنتك عن أدب وتأديبِ
كم عبقريات مشت ضرمًا
في جنح داجي الجنح غربيبِ
ولكن من يطلع على القصيدة يرى تعدد تأويلاتها، فمرة يشتمُّ منها رائحة المدح، ومرة يشتمُّ منها الذم والهجاء، خاصة أن مجد الملاكم كلاي وحصوله على المال الوفير قائم على الضرب واللكم والتحطيم والقوة المفرطة في تكسير الوجوه ونثر الأسنان.
في حين رأى كثير من النقاد أن هذه القصيدة أراد منها الجواهري تصوير أحوال الأمم المخدرة العقول، والجهل المطبق الذي رعى مواهب الرفس واللكم وترك مواهب الإبداع والكتابة والفكر،
وهو ما أيّده رئيس مركز الجواهري "رواء جواد الجصاني" في إحدى مقابلاته الصحفية متحدثاً عن حقيقة القصيدة قائلًا: "في القصيدة سخرية، ليست من كلاي كشخص، ولكن من الرياضات العنيفة، التي يحصل أصحابها على الملايين، بينما الأدباء والنبغاء مفلسون، وقد ظنّها كثيرون مدحًا لكلاي!، والحقيقة أن فيها انتقادًا لاذعًا للمجتمعات التي تهتم بالقوة والضربات واللكمات، وتنسى الموهوبين، وهو أرادها هكذا نوعًا من التحريك، ومخاطبة للمشاعر".
وأضاف أن "الجواهري كان يحسب ألف حساب حول كيف يسدد إيجار شقة صغيرة في أثينا على البحر الذي يعشقه، وكان لا يملك الكثير لتسديد الإيجار، وفجأة يقرأ أن كلاي ربح الملايين من الدولارات، لأنه أدمى خصمه في لعبة ملاكمة قاسية. هناك مقدمة موسعة لها في الديوان حول الموضوع وتشير إلى هذا الأمر تحديدًا، أقصد الالتباس".
في حوار صحفي قصير مع الجواهري في داره بجانب الكرخ في بغداد عام 1977، سأل الصحفي "سليم البصون" الجواهري: قصيدتك الأخيرة عن "كلاي" لماذا أثارت كل تلك الضجة؟، ليرد الجواهري: "توقعت ذلك، لأني أتحدث فيها عن المدى الذي وصل إليه ضياع المقاييس في هذا العالم...".
كما سئل الجواهري: هل تعتقد أن إعجاب الناس بالجواهري يوازي إعجابهم بكلاي؟ فرد الجواهري: "ليس تواضعًا مني، فأنا واثق بنفسي، لكن إعجاب الناس بأكبر عبقرية بيننا محدود بحدود مجتمعنا. حتى طه حسين بعظمته لم يخترق كل العالم! في بيتنا نحب كل أنواع الرياضة والسباحة والكرة و... إلا الملاكمة، حين أراها أغلق التلفزيون".
على الطرف الآخر في المغرب العربي، نظر الكثير إلى الرياضات على أنها جامعة للأهواء ككرة القدم، وموحدة للعرب على الأقل مدة تسعين دقيقة أسبوعيًا.
وهو ما صوّره الشاعر الجزائري "عبد العالي مزغيش" في قصيدة شعرية تناول فيها أسطورة الأرجنتين "ليونيل ميسي" مادحاً له عكس تصوير الجواهري، متضمنًا ذكر المكان "إسبانيا" لتذكير المشاهدين بتاريخهم وأمجادهم الإسلامية بالأندلس.
ويقول مزغيش بعد تسعين دقيقة من مباراة سحر فيها ميسي العقول:
على قدميك يعتزل الرجالُ
ويعجز عند رجليك المحال
فأنت اللاعب الموهوب ميسي
وفي أخلاقك العليا مثال
فلا ديغو ولا فيغو ولا من
مديح دونما تُبدي يُقال
ولا زيدان ولا بيليه ولا نعل
بيكام إذا ارتفعت نعالُ
ثم ذهب مزغيش إلى اتجاه ساخر حيث يتحسر على لعنة الإصابات التي أفقدته متعة رؤية تكتيكات اللاعب العالمي ميسي ومراوغاته:
ولكم عانيتَ من "راموس" اعتداء
ودومًا ليس ينفعه احتيال
عبثتَ به، ببنزيما وبيبه
ورونالدو، فناحت برتغال
وبكلا حالتي الجواهري ومزغيش فقد اجتمعا في قصيدتيهما على ألم مشترك، فالجواهري آلمه ضياع المواهب الفكرية، ومزغيش آلمه ضياع العرب للأندلس، بسبب عدم اتحادهم، مقابل اتحاد الجماهير العربية في أصقاع العالم خلف الشاشات لمتابعة ميسي:
تذكرنا بأندلس انتصارا
وأرضا، كم تباعدنا الجبال
نحنّ إلى قصور كان فيها
لنا تاريخ فانكسر الهلال
فيا ميسي: السلام على زمان بأندلسٍ هي الوصل الوصال
فنبهنا ففي رجليك أسرى
نسينا نحن ما فعل الرجالُ
ولولا أنّ “ميسي” وحَّدَ العُرْبَ
ما اتّحدوا… ولا عُرفَ النّزالُ!