كتب أحد معجبيه في منشور على حسابه في (فيس بوك): "قليلون الذين كانوا يعرفون الأرجنتين قبل دييغو مارادونا.. رجل يصنع مجداً لدول".
والحقيقة أن "دييغو أرماندو مارادونا" لم يكن مجرد لاعب كرة قدم أوصل منتخب بلاده للفوز بكأس العالم في مونديال عام 1986، بل هو اللاعب الذي انتزع الكأس بمفرده ولم يكن بمقدور منتخب الأرجنتين الفوز به لولا وجود مارادونا بالذات.
أسطورة في الموت والحياة
توفي مارادونا بسكتة قلبية مفاجئة، في منزله بمدينة "تيغري" بالقرب من العاصمة الأرجنتينية "بوينس آيرس"، حيث كان يمر بفترة نقاهة من عملية كان قد خضع لها في وقت سابق من شهر تشرين الثاني الماضي، أزيلت فيها جلطة دموية بالمخ.
لم تتوقع الحكومة الأرجنتينية أن يتقدم نحو مليون شخص لحمل نعش مارادونا بما يشبه أي بطلٍ قوميّ، بل وأكثر من ذلك، إذ لم يذكر تاريخ الأرجنتين أن خرج هذا العدد في وداع بطلٍ قومي في البلاد غير مارادونا، المصنّف كأحد أعظم لاعبي كرة القدم على الإطلاق.
فبعد وفاته، تمّ نقل جثمان مارادونا، أو "أسطورة كرة القدم" كما يحلو للكثيرين تسميته، إلى القصر الرئاسي في بوينس آيرس قبل أن يسجّى، ليتمكن محبّوه من إلقاء النظرة الأخيرة عليه. وأعلن الرئيس الأرجنتيني "ألبرتو فرنانديز" الحداد ثلاثة أيام في البلاد تكريماً له.
وبالرغم من الانتشار الشائع لفيروس كورونا بقيت تلك الحشود من الجماهير تملأ الشوارع في وقت متأخر من الليل حدادًا على وفاة مارادونا واحتفاء بحياته. كما أنارت ملاعب المدن الأرجنتينية أضواءها الكاشفة في الساعة العاشرة، لتتناسب مع رقم قميصه (10) تكريمًا لذكراه.
سيرة استثنائية
حياة دييغو مارادونا كانت مليئة بالتفاصيل المثيرة للجدل، إذا ما استثنينا منها إبداعه الاستثنائي والعبقري داخل الملاعب، فبمجرد الحديث عنها خارج الملاعب ستظهر لنا حالات أشبه ما تكون بفيلم سينمائي حافل بالتناقضات.
بالنسبة لعالم كرة القدم، يعدّ مارادونا أحد أفضل اللاعبين في تاريخ الكرة، وذلك بحسب اعتراف كبار نجوم الكرة الذين سبقوه والذين لحقوه.
وبالإضافة إلى حصوله على لقب بطل العالم عام 1986 في مونديال المكسيك، فقد لعب في أندية متعددة منها "أرجنتينوس جونيورز" (الأرجنتين)، و"برشلونة" (إسبانيا)، و"نابولي" (إيطاليا)، كما عمل مدربًا لفرق وأندية، من بينها أندية عربية.
الظهور الأول لمارادونا كان خلال مشاركته منتخب بلاده للرجال في مونديال إسبانيا 1982، رغم ظهوره قبل ذلك ضمن صفوف منتخب الشباب تحت سن الـ20 في عام 1979 باليابان، حيث قال عنه رئيس اتحاد كرة القدم (الفيفا)، جوزيف بلاتر: "لكل شخص رأي في دييغو أرماندو مارادونا، وكان هذا هو الحال منذ أيام لعبه. أكثر ما أتذكره هو هذا الطفل الموهوب بشكل لا يصدق في كأس العالم تحت 20 سنة الثانية في اليابان عام 1979. لقد ترك الجميع يفتحون أفواههم في كل مرة يلعب فيها".
بعد مونديال المكسيك 1986 شارك أيضاً بمونديال 1990 في إيطاليا، حيث استطاع إيصال فريقه إلى المباراة النهائية مع المنتخب الألماني الذي فاز بصعوبة بالغة وعبر ضربة جزاء أيضاً، بالرغم من ضعف منتخب الأرجنتين آنذاك، حيث خسر في مباراته الأولى في البطولة مع منتخب الكاميرون (1-0).
لم يكن تراجع أداء مارادونا في مونديال 1990 سبباً رئيساً في خسارة الأرجنتين، ولا تراجع أداء الفريق الذي فاز في غالبية مبارياته عبر ركلات الترجيح، وكان نجمها الرئيس آنذاك حارس مرمى الأرجنتين (سيرجيو غويكوتشيا) حيث سطع نجمه فقط في ذلك المونديال، تماماً كاللاعب الإيطالي -الصدفة- (سكيلاتشي) هدّاف المونديال بـ6 أهداف، ليأفل نجماهما بعده.
ويبدو أن موقف الإيطاليين، وخصوصاً جمهور ناديه (نابولي)، المدينة الأفقر في إيطاليا آنذاك والمهملة وصاحبة عصابات المافيا الشهيرة ورئيسها (كارميني جوليانو) الذي كان السبب المباشر في غرق مارادونا بتعاطي الكوكائين لاحقاً؛ كان سبباً غير مباشر في خسارة الأرجنتين.
فبعد شرائه من نادي برشلونة الإسباني، صعد مارادونا بنادي نابولي الإيطالي من الصفوف الأخيرة والمهددة بالهبوط للدرجة الثانية، إلى الصف الأول لتفوز المدينة في موسمين متتاليين بالدوري الإيطالي وكذلك كأس إيطاليا والسوبر وأندية أوروبا. كل ذلك جاء بعد مونديال المكسيك 1986.
وبالرغم من كل التهم التي بدأت تلاحق النجم الأرجنتيني، من قضية تعاطي المخدرات وصولاً إلى نفي علاقته بإحدى صديقاته الإيطاليات التي صرّحت عن إنجابها مولوداً من مارادونا، بقي جمهور نابولي يعشقه لدرجة القداسة، إذ جعل منه قدّيساً يساوي قدّيس المدينة (سان كاتوزو).
وفي مونديال 1990 بإيطاليا، كان على مارادونا الاختيار بين جمهور نابولي -الإيطالي- وبين منتخب بلاده، حين واجه منتخب إيطاليا في دور نصف النهائي محرزاً هدف التعادل ولتفوز الأرجنتين بركلات الجزاء. فشكّلت تلك المباراة بداية انهيار سمعة مارادونا داخل بلاد ناديه، إذ بدأ مسلسل القضايا والمحاكم يثار ضده.
مونديال المكسيك.. قصة بداية "الأسطورة" وديمومتها في السياسة والأدب
ما يجعل من مارادونا استثناءً عن غيره من اللاعبين الذين صعد نجمهم خلال مونديال ما أو بطولة أوروبية أو قاريّة أخرى، أو مهارة فردية معينة؛ هو أن شهرة مارادونا بقيت ثابتة خلال السنوات التي تلت انتزاعه لكأس العالم في المكسيك، رغم مروره بالعديد من الانتكاسات المتلاحقة سواء على مستوى الكرة أم في الحياة العادية خارج الملاعب وما التصق بها من حالات الكشف عن تناوله المنشطات أو إدمانه على المخدرات والكحول وإلى ما هنالك من عثرات وفضائح.
غالبية المتابعين لمباريات مونديال المكسيك 1986، من الجمهور العربي، لا سيما جيل الشباب، لم يكن على اطّلاع كاف بالأزمة السياسية التي كانت تشهدها الأرجنتين وبريطانيا على خلفية حرب أرخبيل جزر (الفوكلاند) الأرجنتينية ذات الموقع الاستراتيجي، والتي تخضع للسيطرة البريطانية منذ أكثر من قرن ونصف سبقت مونديال المكسيك.
قامت حرب جزر الفوكلاند التي فازت بها بريطانيا، حين حاولت الأرجنتين استعادة السيطرة عليها عام 1982، ما تسبّب في زيادة الأزمة والقطيعة بين البلدين.
والرابط بين الحروب ومباريات كرة القدم، عرجت عليه مقالة حين أشارت: "بالنسبة للكثير من القراءات الثقافية للرياضة هذا نوع من نكاية التاريخ والتفوق المضاد على الخصم المسلح بأسلحة ناعمة، وهذا الروائي الأميركي صاحب ثلاثية نيويورك بول أوستر يرى في مباريات كرة القدم حروبًا معاصرة: البلدان تخوض حروبها اليوم في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون (الشورتات)، وإذ يفترض أنها لعبة تستهدف التسلية غير أن الذاكرة الخفية لصراعات الماضي تخيم على كل مباراة، وكلما أحرز لاعب هدفاً تتردد أصداء الانتصارات القديمة".
ولعلّ من أكثر المفاجآت المتعلّقة بالأدب أيضاً، تمثّلت في مقطع شعري كتبه محمود درويش في وصف مارادونا، لم نكن لنعلم به قبل أن يظهر عبر منشور لأحد أصدقاء الشاعر الراحل، يقول فيه درويش:
"يفلت كالصوت
له وجه طفل، وجه ملاك
له جسد الكرة
له قلب أسد
له قدما غزال عملاق"
على أية حال، ففي مباراة إنكلترا مع الأرجنتين بذلك المونديال، فازت الأخيرة، بل على نحو أدق؛ فاز مارادونا قصير القامة (1.65 متر)، على إنكلترا، من خلال هدف ما يزال يثير الجدل والحيرة حتى الساعة، حين سدّد الكرة بيده نحو المرمى محرزاً هدفاً أقلق جميع لاعبي الإنكليز وحارسهم المشهور على مستوى العالم آنذاك (بيتر شيلتون)، ليعلّق مارادونا بعد المباراة بأن من أحرز الهدف ليست يده وإنما "يد الله التي عاقبت الإنكليز".
ولم يكتف مارادونا بذلك الهدف، بل سدد هدفاً آخر بعد أن راوغ نحو نصف لاعبي المنتخب الإنكليزي، ثم تبع تلك المباراة فوز آخر على بلجيكا وصولاً إلى فوزهم على الألمان 3-2 في مباراة صنع هدف الفوز فيها مارادونا فقط، وليحرز منتخبه كأس العالم.
فيلمٌ يرصد انتصاراته ونكباته واستمرار أسطورته
منذ نحو عام تقريباً، استعرض فيلم وثائقي حياة مارادونا وأهم تحولاتها حمل اسم "دييغو مارادونا" 2019.
الفيلم تخللته بعض التفاصيل عن حياة مارادونا، لم يستطع كثير من متابعيها إمساك أنفسهم عن التعاطف لدرجة البكاء على ما صنعه ما رادونا من سعادة تجاه وطنه، الأرجنتين، وتجاه مدينة نابولي الإيطالية، وقبل كل هذا وذاك تجاه عائلته التي كانت تشكو الفقر المدقع قبل أن يبلغ مارادونا سنّ الخامسة عشرة من عمره.
في أحد مشاهد الفيلم، تقول شقيقته: "في سن الـ15 من عمره، فقد دييغو كل شيء شخصي، وأصبح مارادونا الذي يهتم بالآخرين. وحتى حين تعرّضه للمشكلات الخاصة لم يكن يودّ أن يُشرك أحداً فيها".
ويصوّر الفيلم الحيّ السكنيّ الذي ولد ونشأ فيه مارادونا، وهو من أفقر أحياء الأرجنتين، إذ لا شوارع معبدة ولا ماء للشرب ولا حتى ملاعب للتدريب على كرة القدم. وبعد مشاركته الناجحة ضمن نادي (أرجنتينوس جونيور) المحلي بسن الـ15، تم تكريم مارادونا بـ "استئجار" بيت قريب من الملعب، فنقل أفراد عائلته (4 أخوات وأبوه وأمه) من الحي الفقير إلى البيت المستَأجر.
حين اشتراه نادي برشلونة الإسباني عام 1983، كان السعر هو الأعلى في ذلك الزمن، جعل منه أول لاعب في تاريخ كرة القدم يحطم الرقم القياسي العالمي لرسوم الانتقال مرتين (5 ملايين جنيه إسترليني، نحو 7.6 ملايين دولار بالنسبة لبرشلونة، ولاحقاً في المرة الثانية حين انتقل لنابولي بقيمة 6.9 جنيهات إسترلينيه).
وعن علاقته الوثيقة بعائلته وحرصه على أفرادها، أظهر مارادونا في مقابلة عام 1990 أجراها مع مجلة "سبورتس إليسترايتد" فواتير هاتفه حيثُ أنفق ما لا يقل عن 15 ألف دولار أميركي شهريًا على الاتصال بوالديه وإخوته. وفي 19 تشرين الثاني 2011، تُوفيت والدته "دلما" عن عمر ناهز 81 عامًا، كان دييغو حينها في "دبي" وحاول العودة لرؤيتها لكنه لم يستطع.
كثيرة هي المحطّات التي عرضها الفيلم، مشاهد وشهادات، والتي تشير إلى مدى تميّز مارادونا ليس من الجانب الإبداعي الكروي فحسب، بل من الجانب الإنساني والوطني أيضاً.
الصعود نحو النهاية
لم يرض مارادونا أن ينهي علاقته مع الملاعب بالرغم من كل ما اعترضه من عقبات وفضائح نالت منه عقب مونديال إيطاليا وما لحقه من عقوبات حرمته من مزاولة اللعب نتيجة تعاطيه المنشطات، فتابع كمدرب في ناديه القديم، أرجنتينوس جونيورز، في عام 1994، وفي نادي "راسينغ" عام 1995.
وفي 2011 أصبح مديرًا فنيًّا لنادي "الوصل" بدبي في الإمارات العربية المتحدة، وأقيل منه في 10 يوليو 2012.
وفي آب 2013، انتقل مارادونا ليصبح مدربًا عقليًا في نادي "ديبورتيفو ريسترا" الأرجنتيني. وغادر مارادونا المنصب في عام 2017 ليصبح المدير الفني لنادي "الفجيرة" في دوري الدرجة الثانية الإماراتي.
وبعد مغادرته النادي الإماراتي، أصبح في آب 2018 مديراً لنادي "دورادوس" المكسيكي من الدرجة الثانية. وفي حزيران 2019، أعلن محامي مارادونا أنه سيستقيل من منصبه "لأسباب صحية".
أيامه الأخيرة
في الثاني من تشرين الثاني 2020، أُدخل مارادونا المستشفى في مدينة "لابلاتا" لأسباب "نفسية" بحسب مُمثل مارادونا الذي صرّح وقتذاك أن حالته ليست خطيرة. وبعد ذلك بيوم خضع لعملية جراحية طارئة في الدماغ لعلاج ورم دموي تحت طبقة سحايا "الأم الجافية".
خرج مارادونا من المُستشفى في الـ 12 من الشهر ذاته بعد إجراء العملية الجراحية، ليتوفى في الـ 25 من تشرين الثاني الماضي، عن عمر يناهز 60 عاماً بنوبة قلبية في منزله بمدينة "تيغري".
وغرد الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم، في بيان على مواقع التواصل الاجتماعي، قائلاً "نُعرب عن حزننا العميق لوفاة أسطورتنا" مضيفاً بأنه "سيظل دائمًا في قلوبنا". كما أعلن الرئيس الأرجنتيني، ألبرتو فرنانديز، الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام في البلاد.
كل تلك المفاصل من حياة دييغو جعلت منه مثار احترام ومحط إعجاب وترحيب لدى مختلف شخصيات العالم السياسية والرياضية والثقافية المعروفة.
فبالإضافة إلى ما كُتب عنه وعن كرة القدم وعلاقتها بالأدب والسياسة، كما أشرنا في فقرة سابقة؛ تجدر الإشارة إلى شهادة ربما تعتبر الأهم في تاريخ الرياضة، ألا وهي شهادة النجم البرازيلي، الأسطورة، "بيليه"، الذي أكّد بأن مارادونا هو الأسطورة، عبر نشره تغريدة على حسابه في تويتر قال فيها: "يا له من خبر حزين. خسرت صديقًا عظيمًا والعالم خسر أسطورة. آمل أن نلعب كرة القدم سويًا في السماء".
Que notícia triste. Eu perdi um grande amigo e o mundo perdeu uma lenda. Ainda há muito a ser dito, mas por agora, que Deus dê força para os familiares. Um dia, eu espero que possamos jogar bola juntos no céu. pic.twitter.com/6Li76HTikA
— Pelé (@Pele) November 25, 2020
قصة مارادونا بالتأكيد لم تكن حكاية كرةٍ وملعب، بقدر ما كانت ملحمة شخص صنع مجداً لوطنه الأرجنتين حين انتصر له بمباراة كروية، وقدّسه جمهور عريض يمتد من وسط القارة الأوروبية، من نابولي الإيطالية، إلى أميركا اللاتينية حين نعلم أن بعض سكانها باتوا يؤمنون بديانة وضعية جديدة اسمها "الديانة المارادونية"، وبكاه حتى السوريون حين رسموه على جدران منازلهم المدمّرة.