مما لا شك فيه أنّ نظام الأسد اتسم بالجهالة والعنجهية عندما قرأ انتفاضة ثمانينيات القرن الماضي قراءة سطحية، فاعتبرها سحابة صيف عابرة، الأمر الذي جعل من انفجار عام 2011 قانوناً اجتماعياً نافذاً بل وحتمية تاريخية لا راد لها. هكذا طفت على سطح البركان السوري الروائح الكريهة المنبعثة من قاع الاستبداد والفساد اللذين أنتجا مجمل القيم السلبية والمدمرة، بما شكّل، لاحقاً، الخميرة المغذية للثورة المضادة والصخرة الصماء التي تحطمت عليها أحلام الربيع السوري. كلّ ذلك كي يحقق طاغية دمشق الرؤية المشوّهة التي تحدث عنها الكاتب الإيرلندي أدموند بورك للتشهير بالثورة الفرنسية في كتابه "تأملات في الثورة الفرنسية" الصادر عام 1790، وفيه يجادل (بأنّ في الكون أناساً خُلقوا سادة، وآخرين خُلقوا مَسُودين).
وعليه من البداهة أن تتحول ثقافة التغيير إلى وجه من وجوه إلقاء الذات في التهلكة في ظلّ الأسد، على أنّ القوى الناعمة، بروافدها السحرية المتجددة، لا تتوقف عن تفجير الأمل الذي يستمد وهجه من زخم الهزّات الشعبية الارتدادية للثورة الأم، إذ كثيراً ما قرأنا عن تغييرات تاريخية كبرى انطلقت من خطأ تاريخي غير مقصود، أو حروب ساهمت في تغيير ميزان القوة العالمي، من النقيض إلى النقيض، كان منطلقها واقعة شخصية بسيطة، ولنا في حادثة حرق البوعزيزي أدلّ مثال، والتي تمخضت عن سقوط ثلاثة حكّام عرب في عام واحد وهم من أعتى الطغاة وأعند المستبدين، غير أنّ هذا الخطأ أو تلك الواقعة لم يكونا السبب المباشر لدفع المشهد السياسي إلى مربعات جديدة ومحددات أكثر وضوحاً، بل إنّ الحدث الانفعالي الذي تمّ رصده لحظة وقوعه بدقة يخفي وراءه سيرورة تاريخية ويحيل على تراكمات وتناقضات تداخلت أزمانها.
لنتفق إذاً أنّ الثورات الشعبية التي لا تنتهي بأن تكون مشروعاً نهضوياً متكاملاً تصبح أكثر قابلية للانتكاس والانحراف أو حتى السقوط المذهل على يد الثورات المضادة التي لها صخبها، ومهرّجوها من فقراء الضمائر، المتشبثين بأطناب الليل، الفزعين من خيوط الفجر المطلّ، الطفيليين.. يستل كلّ واحد منهم عصا السلطة ويعظ الناس بنصها "المقدس". لنتذكر.. في 17 فبراير/شباط 2011 عندما أهان شرطيّ مواطناً في منطقة الحريقة بقلب دمشق، تجمّع الناس وانطلقت هتافات تؤيد الشاب من مثل "الشعب السوري ما بينذل" و"حاميها حراميها"، إلا أنّ هذه الهتافات سرعان ما تحولت إلى "بالروح بالدم نفديك يا بشار" بعد قيام وزير داخلية النظام السوري بحلّ الأمر لمصلحة الشاب، وكما تقتضيه الضرورة الاستبدادية بالطبع.
جاءت الثورة حصاداً لتوسّع مُطَّرد في مساحة الوعي الجمعي وإحساس السوري بإنسانيته المغتصبة، وإن أخفقت في موسمها الأول فبالتأكيد لم تنكسر شوكتها
هكذا تُنقل الانتفاضات المُحقّة من نهج إصلاحي تفاوضي إلى مواجهة وجودية هوجاء مع المنظومة الاستبدادية حتى يُلوى عنقها، وما جنحت إليه الثورة السورية من راديكالية واشتداد همجية النظام وظهيرِه الدولي مجرّد مخرجات حتمية لهذه الظاهرة. في المقابل جاءت الثورة حصاداً لتوسّع مُطَّرد في مساحة الوعي الجمعي وإحساس السوري بإنسانيته المغتصبة، وإن أخفقت في موسمها الأول فبالتأكيد لم تنكسر شوكتها، أما القول بأنها قد ماتت فهو حكم قاصر لا يراوح سطح المسألة، لأنها، ببساطة، حققت أحد أهم أهدافها الاستراتيجية وهو إصابة جسد النظام القديم بالوهن والاعتلال، فخلعت عنه أخيراً صفة "القداسة" و"الأبدية".
بالتالي من الطبيعي أن يتحوّل المدّ الثوري إلى جزر رجعي يفاقم من وحشية النظام الحاكم، ويشهد إمعاناً في تسميم أجواء الأروقة السياسية، باستخدام خطاب إعلامي تصعيدي، وتلميع شخصيات صدامية صنعت خطاباً تحريضياً استهدف كلّ رموز المعارضة المدنية الديمقراطية، لتغرق البلاد في ردّة خطيرة وتآكل مأساوي من شأنهما أن يؤدّيا إلى مرحلة مديدة من الانحطاط، يخفف من حدّتها اندلاعُ الانتفاضات الناعمة الارتدادية المتجذّرة في واقع المعاناة. والحقيقة إنّ إنجاز التغيير الذي تحتاج إليه سوريا اليوم لا يتطلّب قيادات حركية على درجة عالية من التصميم الثوري بقدر ما تحتاج إلى شرارة إنسانية معزّزة بالنفثة الأخلاقية والطاقة المتجددة، يرسخ إيمانها بذاتها وبحتمية انتصارها كونها حركة حقّ وعدل ومساواة.
ومهما كانت المآلات السورية الراهنة معقدة، فهذا لا يعني أنّ أصوات الملايين تضيع بلا فائدة. خذ مثالاً التصريحات الأخيرة لإعلامية لبنانية "صفراء" هاجمت الشعب السوري "المتخلف" و"القذر" فقط لأنه لا يعرف "الشوكولامو" وأتكيت السلام والطعام، على حدّ تعبيرها، فأثارت عاصفة من الغضب وسط وابل من الاتهامات بالعنصرية والتمييز. وقبلها حدث أنْ استنفر السوريون جميعاً لإنقاذ المتضررين من زلزال السادس من شباط/فبراير المنصرم، ما شكّل تضامناً غير مسبوق بين أفراد شعبٍ ممزق، وفق سياسة إنسانية تتماشى مع الواقع المأزوم. هذه الأصوات وتلك الفعاليات إنما، في جوهرها، إعادة تمرّن الجماعة على قول "لا" في وجه الظلم المزمن. فالتغيّر تراكمي لا شك، والتاريخ لا يرتدّ إلى الخلف، وكذلك الشعوب حتى وإن أصيبت بهزيمة مؤقتة. ومثلما شكّل إضرامُ العزيزي النار في جسده، ردّاً على واقع ظالم ومشوه، منعطفاً تاريخياً، فغدا جسده الممر الذي تسللت عبره روحه الممزقة لتحلّ في أجساد أخرى، فإنّ الأصوات السورية التي ترتفع بين الفينة والأخرى، وإن لم يكن لها علاقة مباشرة بممارسات النظام الوحشية، تتحد في نهاية المطاف لتمثل تحدياً جماعياً صريحاً لرأس الهرم نفسه.
من يحاول حماية حكم الأسد إنما يسعى إلى تعميم منظورٍ غير موضوعي يتجاهل حقائق الواقع، ومؤشرات الحراك الاحتجاجي، ومطالبه ومكوناته، ويرى في ثقافة الاحتجاج نهجاً ضبابياً وغير حقيقي
بالتساوق مع ما تقدّم ووسط حيادية نظام الأسد أمام إهانة السوريين، يتضح بشكل جليّ أنّ ثورتهم لم تكن مؤامرة "صهيو-أميركية" كما يحلو للبعض أن يصوّرها، ولا الربيع السوري كان خريفاً دموياً، ومن يحاول حماية حكم الأسد إنما يسعى إلى تعميم منظورٍ غير موضوعي يتجاهل حقائق الواقع، ومؤشرات الحراك الاحتجاجي، ومطالبه ومكوناته، ويرى في ثقافة الاحتجاج نهجاً ضبابياً وغير حقيقي. في المقابل لم يستوعب الطاغية بعد أنّ المطالب إذا انتقلت إلى ما هو "إنساني" يصعب جداً إخمادها، وأنّ أهم ما حققته الانتفاضة السورية هو إعادة الثقة بحقيقة أنّ الأسد ليس قوياً بحرسه وأبراجه ومخابراته، وإنما قويّ بخمولهم واستكانتهم، وأنّه لا يملك من السلطة إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه.
قصارى القول.. الثورات التي لا تعدو كونها فورات حماسية عبثية تتحول إلى تمرُّد وقتي سرعان ما ينتهي إلى "ظاهرة صوتية" وانفعالية، لا فائدة مرجوّة منها، وإن ما يلفت الانتباه، حقاً، في الثورة السورية ارتداداتها المتتابعة التي ستعيد إنتاج خصائص الفعل الثوري نفسه، وهو ما يسمح بالإقرار بأنّ التآكل الداخلي سمة مميزة لكلّ أنواع التحولات التاريخية المفصلية، ويبقى الأمل الوحيد كي تنهض الثورة المستكينة من سباتها العميق هو الفعل التراكمي المتمخض عن الهزات الشعبية عميقة الأثر بشقّها "الإنساني" تحديداً. في المقابل لنكن واقعيين ونتفق أنّ هذه النبوءة ليست قابلة للتحقق في المدى المنظور وسط المعطيات الكارثية الحالية، لكن ما يمكن رؤيته بوضوح هو أنّ هذه الإرهاصات والمناشدات ليست سوى قطرات مياه رقيقة جداً تسقط على حجر صلد، ليس لها هذا الأثر المشاع المرجو منها اليوم، لكنها قد تحدث تغييراً كبيراً في زمن ما، إذا ما استمرت، وتكاثفت، واشتدت، حتى ينشقّ ذاك الحجر.