تعبر الصواريخ الإيرانية نهر الفرات ليل الخميس الماضي لتضرب القواعد الأميركية شرقي دير الزور وتقتل متعاقداً وتجرح آخر وخمسة جنود، وتختبر ردة فعل إدارة بايدن ووزير الدفاع لويد أوستن، فيكون الرد ضمن المتوقع أو أقل، فتعاود ميليشيات الحرس الثوري قصف القاعدتين الأميركيتين في حقلي العمر وكونيكو. لم تهدأ ضفتي الفرات حتى منتصف ليلة السبت – الأحد، ففي حين تتشنج أعصاب الأميركان يرتخي الإيرانيون أكثر، فهذه الجولة ما هي إلا بداية حالة جديدة مرتبطة بتغيرات دولية وتحركات إقليمية.
ثلاث جولات من القصف المتبادل بين ضفتي الفرات على مدار 48 ساعة وضعت القوات الأميركية في قاعدتي العمر وكونيكو وكامل الخط من مدينة دير الزور وحتى مدينة البوكمال على أهبة الاستعداد، تحت مراقبة مستمرة للطائرات المسيرة ودوريات جوية لطائرات الهلكوبتر، واستعداد في قاعدة العديد لأي طارئ يتطلب تدخل الطائرات الحربية.
اقتصر الرد الأميركي على استهداف مقار ومستودعات للحرس الثوري الإيراني في مدن البوكمال والميادين ودير الزور، ما أسفر عن مقتل 11 من الميليشيات الموالية لإيران من الجنسية السورية، و3 من قوات النظام السوري، و5 من الميليشيات الإيرانية من جنسيات غير سورية، وفق المرصد السوري. لكن الميليشيات الإيرانية أخلت مواقعها تجاه البادية السورية وأبقت على منصات إطلاق صواريخ لتعاود استهداف المواقع الأميركية.
شرقي الفرات يتحول إلى مسرح لقصف أميركي إيراني متبادل
— تلفزيون سوريا (@syr_television) March 25, 2023
و #طهران تهدد: نحن أصحاب اليد الطولى في #سوريا!#تلفزيون_سوريا #نيو_ميديا_سوريا pic.twitter.com/pz18YKXr30
رد الفعل الأميركي هذا والذي احتفى به بايدن، توقع حدوثه السيناتور ليندسي جراهام الذي قال في بيان: "من الواضح أن الاستجابة الضعيفة وغير المؤكدة للهجوم الأولي لم تنجح. أخشى أن تؤدي الردود الضعيفة وغير المؤكدة إلى مزيد من القتلى الأميركيين، وزيادة جرأة أعدائنا".
وبلغت جرأة أعداء الولايات المتحدة حداً توعد فيه المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني كيوان خسروي، بـ"ردّ حاسم" على القوات الأميركية بعد استهدافها "قواعد إيرانية" بريف دير الزور شرقي سوريا، وقال خسروي: "أي مُسوّغ لاستهداف القواعد التي تم إنشاؤها بناء على طلب (الحكومة السورية) للتصدي للإرهاب وعناصر تنظيم الدولة في هذا البلد سيقابل برد مضادّ وحاسم".
هذا التصريح يحمل كلمة "قواعد عسكرية" للمرة الأولى في الخطاب الرسمي الإيراني، بعد أن كانت طهران تشدد على أن وجودها العسكري في سوريا يقتصر على "المستشارين"
توقيت سام
أثبتت جولات الاشتباك في العراق بين الإيرانيين والأميركيين قدرة الحرس الثوري على النفس الطويل والتخفي وراء أسماء ميليشيات كثيرة، وكذلك القدرة على تحمل الرد الأميركي الذي لم يخرق التوقعات إلا عندما قتل قاسم سليماني. لكن لا بد من الإجابة عن سؤال: "لماذا الآن تصعّد طهران في سوريا؟".
بعد ثمانية أشهر من الانسحاب الأميركي من أفغانستان أطلق بوتين معركته لغزو أوكرانيا، ليشهد العالم مناظر ألفها في سوريا فقط، فكان التحرك الروسي على قدر الصمت الأميركي في كلا البلدين. الآن وفي حين تتجه أنظار إدارة بايدن لشرق العالم ويستعد الجيش الأميركي لنقل طائراته الحديثة إلى المحيط الهادئ وأوروبا لردع الصين وروسيا والإبقاء على قوات بحرية وبرية محدودة بمنطقة الشرق الأوسط، بدأت دول الشرق الأوسط تعي الاستراتيجية الأميركية المقبلة.
أعلنت طهران والرياض بشكل مفاجئ في العاشر من آذار الجاري اتفاقهما على استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد 7 سنوات من القطيعة، ويجري الآن التنظيم للقاءات على مستوى وزراء الخارجية وزعيمي البلدين.
إيران التي حققت اختراقاً دبلوماسياً تجاه السعودية، تستنتج أن الولايات المتحدة تريد الخروج من الشرق الأوسط، وهي لا تمتلك سوى 900 جندي في سوريا و 2500 آخرين في العراق، وبالتالي تحفز هذه الهجمات واشنطن للخروج لتجنب خسائر في منطقة ليست ذات أولوية الآن.
بعد الاتفاق مع السعودية والترحيب بعودة النظام السوري للحضن العربي، قد يبدو التصعيد الإيراني مناقضاً للمنطق الذي يستدعي أن تبدي فيه طهران بوادر حسن نية تبدد أي قلق سعودي، لكن الملف السوري لم يكن حاضراً بين البلدين ضمن الاتفاق بقدر ما كان اليمني، ولذلك فإن التفاهم حول سوريا سواء مع روسيا أو تركيا أو العرب سيكون له طاولة منفصلة، ولذلك تسير السعودية في بوادر التطبيع مع النظام ببطء مقصود، حيث كان التصريح السعودي الرسمي بأن ما يحصل يقتصر على إعادة فتح قنصليات لتسيير معاملات مواطني البلدين.
لا تقتصر غايات طهران في جولات الاشتباك الأخيرة مع الولايات المتحدة في سوريا على جسّ ردة الفعل الأميركية، بل هي رسالة للمعنيين وعلى رأسهم واشنطن بأن طريق طهران – بيروت هو هدف لا يمكن التنازل عنه، لأن هذا الهلال أسس لقواعد اشتباك خططت لها إيران بدقة، ويتابع تنفيذه ومراقبته قائد "فيلق القدس" إسماعيل قاآني الذي جال في سوريا مرتين بعد الزلزال المدمر. وسيكون هذا الهلال أول ما ستفكر فيه إسرائيل وحلفاؤها عندما تقرر شن هجوم داخل إيران للجم التفاعلات النووية التي تقترب من إنتاج القنبلة الأولى، وللرسالة الإيرانية نسخة أخرى للنظام والمحيط العربي وروسيا بأن "المبادرات" والخطوات المزعومة للدفع بحل سياسي في سوريا، لا بد أن تستثني المشروع الإيراني الذي يمر من دير الزور، حيث يتطاير الشرر.
هذه الجولة الإيرانية التصعيدية الأخيرة هي نتيجة متوقعة للتراخي الأميركي في سوريا والمنطقة وللخطوات العربية التطبيعية غير المشروطة مع النظام السوري. وإن كانت أصوات الجمهوريين تندد بالرد الأميركي الضعيف لأن أرواح الجنود الأميركيين ثمينة، فإن الخطر والخسارة أكبر من ذلك، فالنظام لديه الفرصة الكبرى لتعويم نفسه وبالتالي سيكون التطبيع معه تطبيعاً مع إيران التي تتعامل مع سوريا على أنها خط جبهة متقدم يهدد المنطقة بكاملها.