تكاد تكون ظاهرة "الفنان ابن الفنان" طبيعية ومقبولة في الوسط الفني السوري، حيث يتم تناولها خلال اللقاءات مع الفنانين كظاهرة أصيلة لا غبار عليها ولا تستدعي أي انتقاد، بل إنّهم يؤكّدونها ويمتدحونها في كثير من الأحايين، على مبدأ "فرخ البط عوّام" أو انطلاقاً من عبارة: "نشأ في أسرة فنية عريقة"، أو "دخل الفن من أوسع أبوابه!"؛ أي من باب التوريث الفني، لدرجة أصبح فيها الإعلامي يسأل الفنان الأب عن سبب عدم دخول أحد أبنائه إلى الوسط الفني!
هذا ليس بمستغرب في دولة شمولية دكتاتورية حكمت أكثر من نصف قرن على منوال الأب المؤسس القائد، انطلاقاً من مقولته الشهيرة: "أنا فلاح ابن فلاح" ليصار بعدها إلى "أنا رئيس ابن رئيس" عبر مسرحية "تعديل الدستور" الهزلية، ولينجرف بعدها الوضع بأكمله في تلك الموجة التي كان لها تداعياتها من توفير كافة سبل التسهيلات للتوريث.
ولا شك أنّ ظاهرة كهذه تعدّ ظاهرة مرضيّة تبتلى بها المجتمعات التي تقبع تحت نير أنظمة فاسدة شمولية لا يراعى فيها الاختصاص ولا المواهب. وأذكر حين انتقلت في طفولتي المبكرة إلى مدرسة كبيرة، كنت أرى مع زميلٍ لي "البوّاب" وهو يحمل طبقاً من "السندويش" وعلب العصير قائلاً: "هذه لشعبة أبناء الآنسات"! لقد خصّصوا غرفة صفية لأبناء المعلمين وحدهم، وكانوا يولونهم الاهتمام الزائد. وكنت أتخيّل ببساطة أن أولئك التلاميذ سيرثون مهنة التعليم لا محالة؛ المعلّم يخلّف معلماً والموجّه موجّهاً والمدير مديراً! وهكذا ولدتْ في سوريا الحديثة موجة التوريث.
إن ثورات الربيع العربي التي كان جوهرها أن تقف حجراً منيعاً ضد توريث الحكم، لم تصل للأسف إلى منع توريث بقية "المهن". فوصل بنا الحال إلى توريث العلّامة ابن العلّامة، والمذيع ابن المذيع، والشرطي ابن الشرطي... لتتفشى عدوى التوريث إلى كافة أرجاء المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، ومن ثم تنتقل عدواها إلى الأوساط الفنية، كمخرج يورث مهنة الإخراج لأولاده. وبتنا نشهد تقسيم المهنة الفنية، حيث يتولى أحد أبناء الفنان التمثيل والآخر الإخراج أو الإنتاج، وهلم جرّا.
ربما يمكن لباقي المهن أن تورث؛ كتلك التي تعتمد على الصنعة والتدريب واكتساب المهارة، كالنجار والحداد والميكانيكي... ولكننا في الفنون يتوجب علينا أن نفرّق بين مهنة التمثيل وتمثيل المهنة. وأذكر هنا حفيد الفنان الإسباني العالمي بابلو بيكاسو، أوليفر فلاديمير بيكاسو؛ حين سُئل ذات مرة: لماذا لم تفكّر في أن تصبح فناناً تشكيلياً عظيماً مثل جدك؟ فأجاب: "ورثت أنف جدي ولكني لم أرث يديه". ولم يفكر أوليفير مطلقاً في العمل كرسام مثل جده، وقال:
"يمكن للمرء أن يكون حفيداً بورشة ويصنع سيارات جيدة ولكن من غير الممكن أبداً أن يصبح بيكاسو".
كذلك يجب التفريق بين التربية الفنية وبين الفن، فالتربية الفنية يمكن للشخص تعلم مهارات معينة من خلالها، يمكنه أن يتقن جانباً معيناً، لكن لا يمكنه أن يكون فناناً ما لم يمتلك الموهبة من الأصل. من الممكن تعلّم العزف على البيانو بالتدريب المستمر، ومن الممكن تعلم مهارات العزف، ولكن من المستحيل أن تؤلف موسيقى دون وجود موهبة التأليف من أصلها. فالفن لا يورث ولا يمكن لجينات الموهبة أن تتسرّب بشكل من الأشكال، خاصة أنّ هذه الظاهرة تكاد لا تظهر في الأوساط العالمية، إذ لا علاقة للنشأة في أسرة فنية بالموضوع من أصله.
التوريث في الدراما السورية
مصيبة الدراما السورية أن النجوم فيها باتوا يورثون نجوميتهم إلى أبنائهم، بل ويعتقدون أحياناً أنهم يشعّون فناً من تلقاء أنفسهم. المشكلة لديهم تكمن في فهم التمثيل كمهنة، ويمكن بالتدريب أن يتقنها المرء ويصبح نجماً!
سابقاً كنا نشهد شخصيات متمايزة، كخالد تاجا ونهاد قلعي وناجي جبر وياسين بقوش ...، بينما الآن تتجلى المحسوبية والواسطة في كل شيء، فبحجة الدعم الآن بتنا نشهد في الوسط الفني: عائلة زيدان وعائلة مسعود وعائلة جبر...
ولربما يكون أحد أهم أسباب تفشّي تلك الظاهرة في الأوساط الفنية السورية هو ما توفّره من دعم مؤسساتي وتسهيلات استثنائية وبحبوحة مادية، لأبناء العاملين في الأوساط الفنية، فأغلب الفنانين مرتبطين بشكل مباشر أو غير مباشر بالجهات المسؤولة عن الإنتاج والتوزيع، ما يستدعي بالضرورة حالة يوسم فيها المناخ الدرامي السوري الحديث بالطبقية والبورجوازية، فالسمات الأساسية للفن البورجوازي المنحط هي زيفه، ومعاداته للواقعية، وعداؤه للمعرفة الموضوعية، وللتصوير الصادق للحياة في الفن.
عائلات التوريث.. من "زيدان" و"رضا" و"تحسين بك" إلى "أنزور" و"مسعود" و"عمايري"!
في مسلسل "الكندوش" ج2 على سبيل المثال، نرى توزع أدوار البطولة مناصفة بين الآباء والأبناء؛ فنجد حازم زيدان ابن أيمن زيدان وعمّه شادي زيدان، وهمام رضا ابن أيمن رضا... وهفال حمدي ابن طلحت حمدي، وسليمان حسام رزق ابن أمانة والي والمخرج يوسف رزق، وترف التقي ابنة صباح الجزائري، وراكان تحسين بك ابن حسام تحسين بك!
انتقال الفن (البيولوجي) يشبه كثيراً توريث الحكم البيولوجي، فقد رسخ البعث تلك العملية وجعلها مستساغة، بحيث لم تعد معضلة أو قضية مستهجنة لدى الكثير ممن يتحدثون في شأن الدراما من مذيعين وصحفيين
وعلى صعيد الإخراج؛ نجد يزن أنزور ابن نجدة أنزور، ورشا شربتجي ابنة المخرج هشام شربتجي، والإخوة بسام ومؤمن الملا أبناء الفنان أدهم الملا، والليث حجو ابن الفنان الراحل عمر حجو، وعمرو علي نجل المخرج الراحل حاتم علي، حازم زيدان مخرج وممثل ابن أيمن زيدان، وميار النوري ابن عباس النوري، أحمد حمدي ابن الفنان الراحل طلحت حمدي، والسدير مسعود ابن غسان مسعود، ولاحقاً مجيد الخطيب ابن المخرج باسل الخطيب الذي أعلن عن مسلسله "شرف" من تأليف أمه ديانا جبور!
لاحقاً أيضاً أعلنت سلمى عمايري ابنة عبد المنعم عمايري وأمل عرفة أنها ستدخل الوسط من باب الإخراج في مسلسل "وصايا الصبار"!
فلماذا تقام معاهد في سوريا للتمثيل، ولماذا لا يتم ربطها بدائرة النفوس والمحسوبيات؟
لماذا يتم دفن المواهب الشابة في سوريا؟ هذا الذي يأخذ مكاناً أمام عدسة الكاميرا شغل مكان أحد مستحقيه، كل ذلك دفع لوجود الممثل البرجوازي الصغيرـ ذلك الذي لا يتعرض لاختبار حقيقي لموهبته يكشف لنا عن مقدراته ومؤهلاته، فهو معفي منه بسبب شجرة العائلة، التي تستندُ إلى أيديولوجيا سحرية معمولة في المصانع الحزبية البعثية الشمولية، وهذا ما يفسّر أحد أهم أسباب انحدار الدراما السورية بعد أن كانت الرائدة في الحقبة الماضية.
انتقال الفن (البيولوجي) يشبه كثيراً توريث الحكم البيولوجي، فقد رسخ البعث تلك العملية وجعلها مستساغة، بحيث لم تعد معضلة أو قضية مستهجنة لدى الكثير ممن يتحدثون في شأن الدراما من مذيعين وصحفيين، كما رسّخ مفهوم الرشاوى والإكراميات والمحسوبيات وغيرها من المفاهيم الباطلة. فنحن في سوريا أمام جهتي إنتاج: حكومية لا يعنيها كثيراً الموهبة على حساب الوضع الأمني، وخاصة يديرها تجّار غالبيتهم لا يمتلكون أسس صناعة الدراما والفن.
هما في النهاية وجهان لعملة واحدة يسكّها النظام القائم، والتي سينجم عنها نزعة عائلية في امتهان واحتكار الفنون ضمن أطر محددة، حيث تعد الحرية الإبداعية للفرد ألد أعدائها، ما يفسر لنا النظرة المتعالية لدى هؤلاء الفنانين من حيث الهوة والفجوة بين تعاطفهم الشديد مع قوات النظام ومؤسساته العسكرية، وتغاضيهم عما يحدث مع أبناء جلدتهم من مجازر وقتل تحت التعذيب وتدمير وتهجير، وكأن الموضوع لا يعنيهم في شيء، بل وبنزعة استعلائية ساذجة أيضاً لدرجة أنهم نطقوا -وفق تصريحات لهم بشأن الثورة السورية- بما لم تنطق به السلطة نفسها، ما يفسّر حالة العدائية الشديدة التي تفرضها عليهم منفعتهم الشخصية ومنفعة ورثتهم وحَمَلة "رسالتهم الفنّية"!