icon
التغطية الحية

الأغنية السورية.. تراجع القيم الفنية في ظلّ الأزمات

2024.10.17 | 18:45 دمشق

77557
+A
حجم الخط
-A

فيما مضى كان يطلق على الذين يمتلكون ذوقاً موسيقياً غنائياً راقياً اسم (السَّمِّيعة)، وهذا المصطلح لم يكن مقتصِراً على المختصين من الموسيقيين، بل يمكن أن يُطلق على نخبة من عامة الشعب، بشرط أن يمتلكوا موهبة الإلمام بالتفاصيل الموسيقية على مستوى اللحن والكلمة والأداء. فسمِّيعة صباح فخري الذين أطربهم هذا الفنان الحلبي الكبير بمواويله وقدوده وأغانيه -على سبيل المثال- كانوا يقدِّرون هذا الفن الراقي الطربي العريق، ولا يملُّون سماعه، ولو طال الأمر لساعات، بل قد يطالبونه بتكرار بعض المقاطع التي تهزهم طرباً؛ لأنَّهم امتلكوا عن طريق الدُّربة مهارة الاستماع لما هو أصيل.

هذه الحالة الفنية الجمالية بدأت تتراجع بشكل ملحوظ، خاصة خلال العقد الأخير من الزمن، ليس في الوطن العربي فحسب، بل في العالم كلِّه، وإن كنَّا سنتحدَّث في هذا المقال عن الأغنية في سوريا بشكل خاص.

إنَّ الفن الغنائي يرتبط بالحالة الثقافية العامة التي تشكِّل جزءاً لا يتجزَّأ من بنية المجتمع الذهنية، والتي تعدُّ انعكاساً للواقع السياسي والاقتصادي، فتزدهر بازدهار هذا الواقع وتضمحل باضمحلاله، وفي سوريا تعرَّضت هذه البنية للتغيير الكبير والجذري خلال سنوات الحرب، ما يعني انبثاق شكل جديد من أشكال الفن الموسيقي الذي يتناسب مع التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع السوري في الآونة الأخيرة.

***

في حقيقة الأمر لا يمكننا أن نفصل الفن الموسيقي الغنائي في سوريا عن سياقه السياسي والاجتماعي، فعدم استقرار الحاضنة الفنية، وتآكل الإطار الثقافي شيئاً فشيئاً، أدَّى إلى تراجع ملحوظ في الأغنية السورية من النواحي كافة، هذه الأغنية التي عبَّرت خلال عقود طويلة ماضية عن أصالتها وعراقتها وتنوعها ما بين الطربي والفلكلوري والشعبي، فأصبح الوصول إلى أغنية متكاملة ترفاً لا يمكن أن يمتلكه مجتمع كمثل مجتمع الشعب السوري الذي عانى من ظروف مضطربة وقاسية، وتهدَّمت بنيته التحتية كاملة، ولم يقتصر الأمر على تهتك البنية الثقافية والفنية، بل امتدَّ ليشمل غياباً واضحاً لموسيقيين وشعراء وملحنين ومغنين عن المشهد الثقافي، معظمهم نزحوا أو هاجروا وصاروا يعملون في بيئات جديدة مختلفة، لا تعبِّر عن هوية المجتمع السوري وعراقته، وبالتالي أفرز ذلك نمطاً غنائياً لا ينتمي إلى ثقافتنا الغنائية، ما عمَّق الاغتراب وثبَّت جذوره نفسياً واجتماعياً وثقافياً.

من العجيب أنَّ أغنية تفتقر إلى اللحن الجيد، والكلمات العميقة والمترابطة، والأداء المميَّز، والتوزيع المتقن تحقِّق ترنداً عالمياً بعد أن حصدت ملايين المشاهدات خلال أيام، ويصل صاحبها إلى الشهرة بسرعة الوميض

ونتيجة لتدهور الحالة الاقتصادية في سوريا تأثَّرت الجودة الإنتاجية أيضاً، واتَّجهت معظم شركات الإنتاج إلى الحلول السهلة والسريعة والتي تحقق ربحاً مضموناً، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي (اليوتيوب- تيك توك- فيس بوك) هي الحل الأنسب لتسويق الأغاني بأقل تكلفة ممكنة، حيث يتمكَّن المغنون من طرح أغانيهم (التجارية) والتسويق لها عبر هذه المنصات، للوصول إلى جمهور واسع، من دون أن يكلِّف ذلك شركات الإنتاج ميزانية ضخمة، بل كانت مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة متاحة ليصبح كلُّ مَن يريد أو يتمنَّى أو يتشهَّى فناناً ولديه جمهور يتجاوز الملايين من المتابعين، وهذا يعني عدم وجود ضابط أو معايير واضحة تسيطر على هذه الظاهرة، كما يعني أيضاً اضمحلال الجودة والقيمة الفنية المقدَّمة؛ لأنَّ الناظم لكلِّ هذه اللوثة هو القدرة على التسويق الذاتي، مهما كانت الوسيلة، وتحقيق الشهرة والانتشار، وليس المراهنة على الموهبة الحقيقية، والقدرات الإبداعية الأصيلة، بالإضافة إلى أنَّ نظام الخوارزميات الذي يتحكَّم بمواقع التواصل الاجتماعي يدعم من انتشار المحتوى الذي يحقِّق مشاهدات عالية، وتفاعلات مرتفعة، بغضِّ النظر عن القيمة الفنية التي يطرحها.

***

ومن العجيب أنَّ أغنية تفتقر إلى اللحن الجيد، والكلمات العميقة والمترابطة، والأداء المميَّز، والتوزيع المتقن تحقِّق ترنداً عالمياً بعد أن حصدت ملايين المشاهدات خلال أيام، ويصل صاحبها إلى الشهرة بسرعة الوميض، بينما لم تصل إلى هذا المستوى أكثر الحناجر السورية تميزاً صوتاً وأداءً، ما يعني أنَّ هذا النوع من الأغاني أصبح رائجاً ومطلوباً من قبل الجمهور، وإلا لما وصل أصحابها إلى النجومية، وهذا لا يعني فقط التراجع في القيمة الفنية، إنَّما يعني أيضاً اتجاه الجمهور إلى الحياة الاستهلاكية، والرغبة في التخفُّف من الثقل الفني إلى البسيط والمسلي الذي يقلِّل من عبء الواقع الثقيل، والذي يعتمد على الإيقاع السريع كإيقاع الحياة السريعة. وبدلاً من أن يعكس الفن الغنائي في سوريا الألم والصراع والمشاعر العميقة التي يعاني منها أفراد المجتمع بدأ يعكس الفراغ والتشتت والخواء والسطحية، وأصبح الغناء شكلاً خالياً من المضامين التي تلامس وجدان المتلقي وتؤثر فيه.

وعلى الرغم من كلِّ ما ذكرناه هناك العديد من الفنانين في بلدان المهجر والنزوح الذين يحاولون -على قدر المستطاع- تقديم فنٍّ غنائي يحمل الطابع السوري إلى العالم في الخارج، يعبِّر عن التراث العريق بما فيه من اختلاف وتنوع، في محاولة للمحافظة على هذا اللون من الغناء حيَّاً ومتاحاً للأجيال القادمة وللذين يريدون أن يروا صورة سوريا المشرقة مجسَّدة في فنِّها، وذلك من خلال المزج بين الحداثة والأصالة، والاستفادة من معطيات العولمة، ما يعني وجود آمال بعودة الأغنية السورية إلى الساحة الفنية، أغنية تعبِّر عن هوية السوريين ضمن مسار جديد يواكب روح العصر ويرتقي بذائقة الأجيال القادمة.