قبل اثني عشر عامًا طالب السوريون بتطبيق المعايير الدولية للحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة وفصل السلطات والتداول السلمي للحكم، وقدّموا عبر سنوات صعبة الكثير من التضحيات، وخسروا ماديًا ومعنويًا من أجل ما طالبوا به، وعاشوا مأساة لم يجدوا من يُوقفها.
كان السوريون وحيدين في معاناتهم، تعاطفت معهم شعوب كثيرة، وكذلك حكومات دول عربية وغربية، وقدّم بعضها الكثير إنسانيًا وسياسيًا، لكن لم يكن هذا التعاطف بالمستوى الحقيقي المطلوب تجاه قضية كارثية بهذا الحجم، ولم يكن أحيانًا هذا التعاطف بالضرورة لصالح تطلعات السوريين من وجهة نظر استراتيجية واقعية.
تدخّلت في سوريا خلال هذه السنوات دول كثيرة، بشكل مباشرة أو عبر وكلاء ووسطاء، وبات هذه البلد مسرحًا لأطراف دولية وإقليمية عديدة، وأنشأت روسيا والولايات المتحدة وإيران عشرات القواعد العسكرية، ودخلت عشرات الميليشيات المتطرفة والمتشددة دينيًا وقوميًا وإثنيًا، الإيرانية والعراقية واللبنانية واليمنية وحتى الأفغانية، وانتشرت الفوضى وهُجر أكثر من نصف السوريين من وطنهم، وانهار الاقتصاد ودُمِّرت البنى التحتية، وتحوّلت سوريا إلى ما يُشبه دولة.
تحدَّت دول إقليمية بعضها في الساحة السورية، وتعاملت الأمم المتحدة بخجل مع قضية القرن، وكل ذلك على حساب السوريين المكلومين الحالمين ببعض كرامة
تضاربت مصالح السوريين المطالبين بالحرية - في الكثير من الحالات - مع مصالح الدول، وتضاربت مصالح روسيا وأميركا، واختلفت الدول العربية فيما بينها حول موقفها من القضية السورية، وتحدَّت دول إقليمية بعضها في الساحة السورية، وتعاملت الأمم المتحدة بخجل مع قضية القرن، وكل ذلك على حساب السوريين المكلومين الحالمين ببعض كرامة.
خلال هذه السنوات، تقدّم العرب بمبادرة للسلام والإصلاح السياسي، رفضها النظام السوري، وقطع علاقته بالكثير من الدول العربية، ثم تبنّت الأمم المتحدة القضية السورية، فقدّمت الكثير من المبادرات، كمؤتمر جنيف، والقرار 2254، وغيرها الكثير، ودعم المجتمع الدولي مخرجات العديد من المؤتمرات، لكن أيًا منها لم يُنفّذ أو يُطبّق، لأن أياً منها لم يحمل خارطة طريق واضحة ودقيقة و"إلزامية" لكل الأطراف، ففي سوريا التقت مصالح أميركا وروسيا في ضرورة إضعاف كل الأطراف.
رغم معرفة العرب والدول الإقليمية والمجتمع الدولي ويقينهم الكامل بأنه لا يُطبّق في سوريا حتى الحد الأدنى من معايير الدولة الحديثة، ومن قوانين حقوق الإنسان، وحيث تُصادِر السلطة الدولة والمجتمع، والإنسان مقموع ومسحوق، ومع هذا لم يقوموا إلا بإجراءات هزيلة لا تتناسب بالمطلق مع حاجة السوريين وتضحياتهم، ليس سياسيًا فقط، وإنما يندرج هذا الأمر حتى على الصعيد الإنساني.
أكدت الجهات المتدخلة والمتصارعة في سوريا التزامها بالحل السياسي، وتتفق فقط على ضرورة الحفاظ على الحدود السياسية للبلاد ووحدتها، وتختلف على كل ما عدا ذلك، وتُراهن على استنزاف الأطراف الأخرى في سوريا، حتى لو استمر هذا الاستنزاف لعقود.
تم تدويل الصراع في سوريا، واكتسبت الجهات الفاعلة الدولية - الدول والمنظمات الحكومية الدولية - نفوذًا، وضعفت المعارضة، وضعف النظام، ولم يعد أي منهما يملك القوة والقدرة الكافية لحكم الدولة بسيادة وحرية، ولا يتعامل الجميع مع النظام أو مع المعارضة إلا كأداة لتنفيذ مصالحهم فقط.
يقولون في السياسة إن المصالح هي التي تحكم لا مشاعر البشر، وربما هذا يُفسّر هذا الاستخفاف بالقضية السورية، وبملايين السوريين المنكوبين، الاستخفاف العربي والإقليمي والدولي.
صورة الراهن السوري هي انعكاس مباشر وواضح وفج لعقود من الخلافات والتحديات الإقليمية والدولية، وحصيلة لتضارب مصالح الدول الكبرى
منذ أوائل عام 2020، شهد الاهتمام الدولي - الخجول أساساً - تجاه القضية السورية شبه توقّف، بسبب عوامل خارجية وداخلية، ولم يعد السوريون يرون أي خطوات ملموسة، بل تصريحات لا قيمة عملية لها، وغاب طيف التسوية السياسية، الشاملة أو حتى الجزئية، واستمر الوضع السوري مُعقّدا، واستمرت الأزمة الدامية، كما استمر رفض النظام لأي تغيير مهما كان طفيفًا.
صورة الراهن السوري هي انعكاس مباشر وواضح وفج لعقود من الخلافات والتحديات الإقليمية والدولية، وحصيلة لتضارب مصالح الدول الكبرى، بل والصغرى أيضًا، وستمر السنوات كأرقام لا نهاية لها ما لم يتحرك السوريون، كل السوريين، لأن سوريا بأمس الحاجة لتحركهم الآن.
على جميع السياسيين السوريين التوقف عن الاستقطاب الحاد، والاقتناع بضرورة صناعة عقد اجتماعي جديد، وتعزيز شرعية مبادئ بناء السلام، ومبادئ حقوق الإنسان، والمضي بعملية توافقية تستند إلى قرار مجلس الأمن 2254 الذي يضمن الانتقال نحو دولة المواطنة، دولة ديمقراطية تنعم بالتعددية السياسية وبالتداول السلمي للسلطة، والتفكير في الدولة كدولة، كهيكل ومؤسسات وهيئات تعمل من أجل جميع السوريين، والوقوف بحزم ضد أي طائفية لمنع أي انتكاسة في المستقبل، ودون ذلك سيبقى طيف التسوية السياسية حلمًا بعيدًا.