icon
التغطية الحية

إبراهيم الجرادي.. من عطش الملح إلى شهقة الجرح

2024.08.26 | 11:26 دمشق

آخر تحديث: 26.08.2024 | 15:32 دمشق

6575675
الشاعر السوري الراحل إبراهيم الجرادي
+A
حجم الخط
-A

"لستُ محظوظاً لأنّيْ
كلّما أسْلَمْتُ أسراري لأهلي ساءَ ظني
غادروني
قبلَ ميعادِ الأسى واستدركوني
بالعذاباتِ
وصوتُ اللهِ فيَّ
كلما ملَّحَني الدَمعُ وفاضتْ في عيوني
شهوةُ التابوتِ
أهلي اسْتَعْذَبوني
وأنا
أمشي
إلى
نعشي
وتتبعني خُطايْ
لست محظوظاً لكي أغفو على وترٍ ونايْ".

لم تكن رقصة الوتر على عود من خشب الجوز، أو نفحة الناي المصنوع من قصب الفرات لتجعل الجرادي إبراهيم يغفو مستريحا من جرح الماضي واضطراب ظله في التغريبة التي بدأت منذ أن غادر قريته بندرخان الوادعة في أقصى شمالي مدينة الرقة على الحدود التركية، ليصارع بعدها أمواج الغربة، في بلده أولا ثم روسيا فاليمن، ومن ثم دمشق حيث ألقى تحيته الأخيرة للمرافئ طاويا صفحة الدنيا.

عام 1951 في منطقة تل أبيض شمالي سوريا، بعيدا عن معترك الأحداث السياسية والصراعات الحزبية، في قرية بندرخان المتكئة على تلة تكمن خلفها تلة أصغر ولا تتجاوز منازلها عشرين بيتاً من جدّ واحد، ولد الشاعر إبراهيم الجرادي من عائلة تحمل طابع البداوة والريف والمدنية معا، وكان جوّها العائلي حريّ بأن يفجر قريحة الأدب شعرا أم نثرا؛ فلو تبعنا منهج أهل الطبقات في التصنيف لقلنا إن الجرادي يعود بنسبه إلى المؤرخ والشاعر والأديب عمر بن أحمد بن هبة الله المعروف بابن العديم، صاحب كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب، وكان بنوه وأبناء بنيه وأحفادهم يحملون الإرث الأدبي كما ذكرهم ابن حجر العسقلاني والصفدي، وكذلك ياقوت الحموي الذي قال في معجم الأدباء: "بيت أبي جرادة بيت مشهور من أهل حلب، أدباء وشعراء وفقهاء، عبّاد زهّاد قضاة، يتوارثون الفضل كابراً عن كابر، وتالياً عن غابر".

وبالعودة إلى نشأة إبراهيم الجرادي وتفتح قريحته الأدبية، ثمة شجار عائلي ذهب ضحيته أخوه، كان كفيلاً بأن يغير مجرى حياة شاعرنا ويفتح في وجدانه قناة شعرية حزينة مصدومة مكلومة، دفعته لمغادرة قريته إلى مدينة الرقة والدراسة هناك في المرحلة الثانوية لتكون هذه المرحلة أولى مراحل التوجه الأدبي السياسي للجرادي.

البواكير الأدبية للجرادي

كان النفس الاشتراكي في الفضاء الأدبي السوري منذ ستينيات القرن الماضي، هو ما يستنشقه الكتاب والشعراء الشباب الباحثون عن ثورة شعرية تتجاوز في هيكلية القصيدة مرحلة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب والمجدّدين الآخرين لشكل القصيدة، فوجد الجرادي مبتغاه عند جماعة سمّت نفسها "جماعة ثورة الحرف" التي تأسست عام 1963 على يد عبد الله الخليل ورشيد رمضان ومحمد السطام وغيرهم من مثقفي الرقة الشباب. انضم الجرادي إلى الجماعة ليثريها وتثريه، وتكون له جسرا إلى محطات أدبية أبعد.

كانت كتابات الجرادي حينها تدور في فلك بسيط غير مركب ولا معقد وغير مشبع بدهاء كتاب المدينة، ورغم بساطتها تخفي ناراً تؤججه الصدمة التي تلقاها الجرادي في صغره بعد مقتل أخيه:

"تناثرت روحي على يديكِ كالزجاج

من يلمُّ روحي؟

أجفَّ خافقي؟

أتعرفين كيف جفَّ خافقي

إذ أقفرت عيناكِ كالبحيرةِ الفسيحة

وجاء ذئبُ الشعرِ جائعًا

تفتّحي إذن، ولتطرقي روحي

وتشعلي يديَّ آخر الليلِ

تنظّفُ الأشعارُ نفسها مني، ومن ظنوني

تفاحة مشطورةٌ نهداكِ، وفمكِ الرغيف

فمن يلمُّ روحي

إذ جاء ذئبُ الشعر جائعًا ونام في جروحي".

كانت "ثورة الحرف" القارب الصغير الذي لم يدرك الجرادي أنه سيأخذه في بحر متلاطم لا يعرف رأفة بشاب قلق خجول يحاول أن يلم أجزاءه المبعثرة، وزاد من تبعثرها دخوله في عالم الأدب السياسي الذي شكلت نكسة حزيران 1967 انعطافته الأولى نحو عالم أكثر غربة في اللغة التي تجبر المعنى على أن يتستر بعباءة اللفظ الفوضوي حتى يستطيع تمرير أفكاره وتوجهه كما يريد، خصوصا أن الجرادي بعد أن أنهى مرحلته الثانوية ذهب إلى دمشق لإكمال تعليمه، وفي دمشق تمكن من لملمة أجزائه المبعثرة كما صرح بذلك في ديوانه "أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة".

من دمشق إلى بيروت

يقول الجرادي ملخِّصاً حياته في دمشق:

"كانت دمشق تغلي كالحصى في مرجل مضغوط. وكانت رائحة حزيران الزنخة تستبد بالمكان، إلا أن ريحاً قادمة من رغبةٍ غامضة، كانت تُسرِّب شرارات التململ، وكان الشعر أحد أشكال هذه التجليات. وقد استمالت الريح الجديدة فرسان الساحة الشعريّة آنذاك، إذ نفر ممدوح عدوان ممن يألفون، وذهب علي الجندي إلى وحشته وسوء ظنه، وسخّر علي كنعان قوله على مطالب الإنسان في الحرية والعيش الكريم، وظلَّ محمد عمران في المنطقة العازلة. كان هناك في المسرح سعد الله ونوس، وفواز الساجر. وهبت على الفن التشكيلي روح شمالية مع بشار العيسى، ويوسف عبدلكي، وغيرهما؛ لقد كانت كثرة الشعراء باختلاف أساليبهم وبواعثهم، تُبَشِّر بروافد جديدة، وكان ثلاثة منهم، أصحاب «الصفير الخاص»، يحفرون مساربهم الخاصة في الشعر السوري: سليم بركات، ونزيه أبو عفش، وبندر عبد الحميد؛ (وبشكل أو بآخر رياض الصالح الحسين، ومنذر المصري، ودعد حداد، وعادل محمود) وغيرهم جاؤوا في ما بعد بقليل".

استثارته بيروت في تلك الأوقات كفتاة في أوج إشراقها فلبى نداءها والتحق بمنظمة الأنصار للعمل الفدائي، من وجهة نظر ماركسية جعلته يصبح شيوعيا، لكنها شيوعية بسيطة لم تدرك أن وراء كل فكر جديد أنياباً تحرس مغارة الوحش، فلم يسع الجرادي ليكون لينيا ولا ماركسيا وإنما أعجبه جديد لم يستطع تغيير الطابع العربي الأصيل في وجدان الجرادي، فكل طموحه "رجل يستحم بامرأة" كما هو عنوان أحد دواوينه المبكرة، أو "شهوة الضد".

"أنا الياويل..أنا الياويل

لبسن ثوبين والثالث خفيفاي

وانا العاقل ونادوني خفيفاي

خلق.. يا ناس رود لي وليفاي

وليفي من الجهل غالي عليَّ"

5476675

هذه المقطوعة باللهجة العامية ومثيلاتها يتوسطن كتابات الجرادي العربية الفصيحة في قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر، وكأن صورة المرأة ذات العصبة والهباري تعترض صور فتيات بيروت اللواتي قال عنهن الجرادي في ديوانه "رجل يستحم بامرأة":

"أعيشُ مع امرأةٍ باهظةْ!

أبيع حوائجها الداخلية سراً وأحيا!

لماذا بعثتَ ببعضٍ من التركة السابقةْ

جراحي وخوفَ المخافر

وشاشَ الهموم وقمصاني المُستعارةْ

نعمْ.. تضيعُ الرسائلُ والشِعرُ والحبُّ بين البريد وبين المباحث

أجيءُ أنا؟ (أأنتَ انهبلتْ!)

 أنا أفقد البعضَ مني

تعلمتُ كيفَ أُكذِّبُ صوتَ المغني وصوتَ الزعيمِ

 بمعهد علمِ الظنونِ الخبيثةْ".

انتكاسة النضال الفدائي في لبنان بعد صبرا وشاتيلا جعلت الجرادي يتبعثر مرة أخرى فإما العودة إلى بساطة الريف رافعا راية الاستسلام أو مقارعة الأمواج والمضي في بحر أكثر عمقا وبردا، فاختار المضي إلى روسيا ليعانق أطياف بوشكين وتشيخوف ودوستوفسكي... وللحكاية بقية.