icon
التغطية الحية

أنصاف بشر على موائد الرأسمالية.. "المنصّة" فيلم يحاكي الجشع وإيقاظ الإنسانية

2021.08.16 | 06:11 دمشق

mn_alfylm_3.jpg
من فيلم المنصة (the platform)
هيا عسّاف
+A
حجم الخط
-A

يتمحور الحديث هنا عن فيلم "المنصّة" (the platform) وهو فيلم إسباني بكلفة منخفضة، عرض لأول مرة في فعاليات مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، وذلك خلال شهر أيلول من عام 2019، محققاً جائزة تصويت الجمهور لأفضل فيلم ضمن قسم"جنون منتصف الليل."

الفيلم من بطولة أنطونيو سان خوان وإيفان ماساغي، وإخراج غالدير غاستيلو أوروتيا، وللكاتب ديفيد ديسولا الذي كتب السيناريو بالاشتراك مع بيدرو ريفيرو.

 تدور الأحداث حول سجن من نوع خاص، عمودي التصميم ويتكوّن من مئات الزنازين. يسكن شخصان في كلّ طبقة/ دور، وكأننا في علاقة عمودية يغيب فيها التواصل بين الطبقات، فلا أحد يستمع للآخر، سواء القابع في الطبقة العليا أو في السفلى. فيخلق نظام السجن مجتمعاً من الصُّمّ تطغى فيه النزعة الفردية ويشبه إلى حد بعيد النظام الرأسمالي في تقسيمه الطبقي.

 

 

يحكم السجن قانونان يعتبران من ركائزه؛ الأول يعتمد على تغيير مكان السجين عشوائياً في الحجرات (زنازين السجن) كل شهر.. حيث يكون السجين في الطبقة المتوسطة، ليستيقظ بعد شهر في طبقة سفلى قد تكون رقم 150، وهكذا يستمر تغيير الطبقات من دون انتهاء.

القانون الثاني، ويخصّ الطعام الذي يهبط على مائدة من الأعلى للأسفل، ويتكون من أصناف منوّعة وغنية بالأطباق الشهية التي يختارها السجناء، وقد تكفيهم إذا تناول السجناء حصصهم فقط، ولا يُسمح لهم الاحتفاظ بالطعام، وإن حصل ذلك فسترتفع درجة حرارة الغرفة ليموت الشخص حرقاً، أو تنخفض حرارة الغرفة فيموت متجمداً من البرد. لذا، يجب على السجناء تناول طعامهم خلال دقيقتين في كل يوم، لتنزل المائدة بشكل آلي إلى الطوابق الأخرى، حيث ينقص الطعام كلما هبطت المائدة نحو الأسفل.

وهنا يكمن جوهر الفيلم الذي يتعلق بطبيعة الحال بغريزة الوجود والطعام.

صراع الطبقات

الفيلم يسلّط الضوء على ما تعيشه المجتمعات البشرية منذ الأزل وحتى الآن ضمن إطار ما يسمى الصراعَ الطبقي

الفيلم يسلّط الضوء على ما تعيشه المجتمعات البشرية منذ الأزل وحتى الآن ضمن إطار ما يسمى الصراعَ الطبقي. ويتباين التفاوت الطبقي بين صراع اقتصادي أو اجتماعي، فتغيب فيه القيم الأخلاقية والاجتماعية، ويعلو فيه صوت "الأنا" والمصلحة الشخصية على مصلحة الجماعة، وينطبق عليه قول جان بول سارتر: "الجحيم هو الآخرون".. في إِشارة إلى ما يعيشه الإنسان في عصرنا الحالي. حيث أصبح المجتمع فاسداً في واقع شديد القسوة تسحق فيه الطبقات العليا ما يقبع تحتها من طبقات متوسطة أو ضعيفة.

ويحاكي الفيلم بشكل كبير الطبقية والواقع الذي ننتمي إليه في يومنا هذا، إذ نجد صوراً حيةً عنه في عالمنا الثالث وخصوصاً في دول تعاني من حروب وصراعات مثل سوريا واليمن والعراق وغيرها.

البعد الفلسفي للفيلم

كما يحمل أيضاً مغزى فلسفياً أكبر وأهم من الصورة التي يبدو عليها، حيث يبدأ الفيلم بشخصية "غورينغ" الباحث والكاتب الذي يخوض مغامرة جديدة من أجل نيل شهادة الدبلوم، فاختار الدخول إلى الحفرة متطوعاً برفقة كتّاب آخرين، ما يعني أنه ليس سجناً مخصصاً للخارجين عن القانون؛ إذ لم يكن بطل الفيلم -غورينغ- شبيهاً ببقية السجناء الذين عرضهم الفيلم والذين يقتنون الأسلحة من أجل الدفاع عن النفس.

وتدور حبكة الفيلم عندما يستيقظ البطل في الطابق الثامن والأربعين وعلى الجهة المقابلة منه في الطابق شريكه العجوز "تريماغاسي" ذو الشخصية الأنانية القاسية الذي يعيش على استغلال وسذاجة من حوله، وكان قد قضى فترة جيدة في الحفرة ويعلم الكثير عن قوانينها.

 

ثوريون إيغليور (تريماغاسي).jpg
من الفيلم (شخصية تريماغاسي)

 

 تبدأ اللعبة عندما تهبط المائدة التي أكل منها أربعة وتسعون شخصاً في الأدوار العليا، ما أدى إلى اشمئزاز غورينغ ورفضه الأكل منها في البداية، قبل أن يتمكن منه الجوع فيأكل بشراهة وينحي القرف جانباً. ومن ثم تتوالى الأحداث، ويمر شهر بالتمام والكمال قبل أن يستيقظ غورينغ في أحد الأيام ليجد نفسه مقيداً من قبل تريماغاسي، وهم في الطابق الواحد والسبعين بعد المئة، وحينها يفهم غورينغ أن العجوز يود أن يأكل لحمه حياً، فلا يوجد طعام قابل للوصول إلى هذا المستوى المنخفض، وهنا تبقى غريزة البقاء هي المسيطرة، وأن النجاة بالنفس هي الأهم إما إن تأكل غيرك أو تؤكل.

محاولات التغيير

ينتهي الشهر الأول ليستيقظ غورينغ ويجد نفسه في الطابق الثالث والثلاثين مع "أميغوري" التي كانت تعمل سابقاً في إدارة السجن، حيث كانت امرأةً تمتلك مقدرة على التغيير ولديها الكثير من المعلومات القيمة، فكانت تطلق على السجن لقب "مركز إدارة الذات العمودي"، وأنه حتى يصل الطعام إلى الطوابق السفلى بكمية مناسبة، يجب أن يتولد بين السجناء ما يسمى "إحساساً عفوياً بالتضامن"، ويعني أن كل شخص، يأكل ما يحتاجه ويترك لغيره طعاماً كي لا يشعر بالجوع.

ترتفع ذروة أحداث الفيلم حين يخاطبها غورينغ قائلاً: "لا يمكن للتغيير أن يكون عفوياً، ولو انتشر هذا التضامن بالفعل بين الناس هنا، سيقومون بمنع حدوثه بالخارج".

وكانت وجهة نظر غورينغ أن التغيير يجب أن يكون في مركز قوة، فمثلاً في تهديد من تحته أنه "سيتبرز" على طعامهم بينما أميغوري ترى بأن التغيير يكمن في الحوار.

 

من فيلم المنصة.jpg
من الفيلم

 

لم يستطع غورينغ إحداث أي تغيير بسبب الطبقة التي كان فيها، فيجب أن يكون التغيير من الأعلى للأسفل، ولربما شدة رغبة غورينغ في نشر العدالة قادته إلى الطبقة السادسة ليستيقظ مع شاب يسمى "بهارات"، وسرعان ما اتفق معه على إجبار السجناء في الطوابق السفلى على تناول ما يكفيهم من الطعام فحسب، إلا أن هذا التصرف "النبيل" كانت نتيجته أحداث دموية وأضرار كبيرة.

وقد اتفق الاثنان أيضاً على ترك طبق واحد لا يُمس، وهو حلوى "ألبانا كوتا"، ليصبح هذا الطبق رسالةً لإدارة السجن مفادها أن السجناء استطاعوا بالفعل أن يصلوا لحالة التضامن العفوي فيما بينهم، وأن كلاً منهم أخذ حاجته من الطعام فقط، حتى أنهم تركوا هذا الطبق في حالة مثالية لعدم حاجتهم إليه.

وهنا يظهر غورينغ يأكل كتابه، في رمزية إلى أن العلم غير مفيد بوجود الجوع.

يُخيّل لغورنيغ وجود فتاة ، ليضع من هم في الأعلى في مواجهة كذبهم حول قوانين السجن التي تنفي وجود من هم دون الـ 16 عاماً في هذا السجن.

إلا أن الفتاة عبارة شخصية توهم غورنيغ وجودها بسبب تأثره وهلوساته من شدة الضرب والعنف الذي تعرض إليه. ومن المحتمل أن المخرج زرع شخصية الفتاة لإرسال رسالة إلى المتلقي تفيد بأن التغيير سيحصده الجيل الجديد.

 لم تقدم نهاية الفيلم إجابات للأسئلة التي تتوارد إلى ذهن المتابع، فكانت النهاية غامضة يتخللها بعض الأمل. ويعتبر الفيلم أكثر من مجرد مشاهدة للمتعة والتشويق، فهو محاكاة طبقية للواقع المظلم الذي نعيش فيه.