شاع قول الناقد تزفيتان تود روف حينًا من الدهر بالمعنى والأثر وليس باللفظ والحرف، وهو؛ أنَّ الضحك يدمّر الطغيان، فكان الناس يعتبرون دريد لحام وعادل إمام وأمثالهما من المضحكين مناضلين ضد الظلم، بعضهم عدّ المضحكين قادة وعن الشعب ذادة، وأُلّفتْ عن المضحكين والمهرجين كتب مادحة وأقوال صادحة، وقيل إنَّ حافظ الأسد مدح دريد لحام، وعدّه معادلًا لكتيبة دبابات في قول نُقل عنه شفاهًا، وقد منحه وسامًا كبيرًا، والواقع يصدق ذلك، لكن إن تدبرت قول الناقد الروسي بالنظر والفكر، وجدت أنَّ سلاح الضحك صادره النظام مع الأسلحة المعدنية التي صادرها، فلم يبق لدى الشعب سوى بنادق العصافير.
الضحك سلاح حقًا، لكن الشعب تدرع به للعزاء أما النظام فقاتل به للنكاية والخدعة، وأنَّ خير مجلى لاستعماله كان في إسقاط رئيس الشعب المصري المنتخب مرسي، بل إنَّ السلاح نفسه والذي استخدم في إسقاط الرئيس تم تدميره والاستغناء عنه، فقد نزح باسم يوسف مع من نزح، واشتغل في الطبخ النباتي وقضايا أخرى، وأن من استخدمه جنّد له ما يقرب من مائتي جندي يجمعون له النكات ويعدون له الصور من خزائن الصور والأفلام والأخبار. أما سبب تنسك باسم يوسف في الدعوة للنبات فليس توبة وتبتلا وإنما لأن الإنسان الذي يأكل النبات أقل قوة وشكيمة من الشعب الذي يأكل اللحم. يمكن القول هو انقلاب روحي فالرجل تحول إلى نادب للحيوان المسكين.
وقد يكون الضحك مثبطًا ومخدرًا مثل الأفيون، لما فيه من تسلية وعزاء، وفيه انتقام لفظي، وهو يميت القلب، حتى إن العامة عندما يضحكون يتعوذون قائلين: "الله يعطينا خير ها الضحك"، تطيّرًا منه.
يحسّ الضاحكون بالبهجة ولكن بالتعب أيضًا، وأن الأنظمة بدهائها وعلمائها وخبرتها قد أحسنت استخدام هذا السلاح
يقول الباحث المصري المعروف جمال حمدان إن حزب مصر المعارض هو حزب النكتة، لكنه حزب لا يقطع أرضا ولا يطلق مقيدا. يحسّ الضاحكون بالبهجة ولكن بالتعب أيضًا، وأن الأنظمة بدهائها وعلمائها وخبرتها قد أحسنت استخدام هذا السلاح، حتى إنَّ زوجة رجل مهم، في الفيلم المصري المعروف، جرى على لسانها إلماح لمسرحية مدرسة المشاغبين وأن النظام من كثرة بثّها في الأزمات بَلِيت ولم تعد تُضحك، من غير أن تشير إلى أغراض اشتهرت بها المسرحية التي يعزى إليها فساد خلق التلاميذ في المدارس وانحطاط شأن المعلم ومنزلته. فالضحك سلاح متعدد الأغراض.
يندر أن تجد الممثل ثائرًا، وكان مارلون براندو من الثائرين القلائل ضد النظام السياسي الأميركي، وكان قد شبع من المجد واللذة (اغتصب ممثلة في أثناء التمثيل)، فاعتزل وزهد في الأوسكار الثانية، وقيل إنه كان ذكيًا وصاحب بصر وبصيرة، عُرف عنه ذلك خلال مقابلة القبول في التمثيل، وكانوا طلبوا منه أن يقلد دجاجة كما طلبوا من زملائه، فقلد الديك، وعندما اعترضت عليه اللجنة قال: ألا ترى أن هذه الدجاجات بحاجة إلى ديك. أما سبب كون الممثل ممنوعًا من الثورة فلأنه يعمل في فريق وبحاجة للسلطة وأدواتها الإعلامية وهو غير الكاتب الفرد، لذلك تجد المعتقلات مكتظة بالكتّاب، وقلما تجد ممثلًا معتقلًا.
وقد ضحكنا كثيرًا، والهزائم تترى وتتوالى، وعدنا إلى بيوتنا، فوجدنا غوار الطوشة يسلينا وعادل إمام يضحكنا، وقبلهما إسماعيل ياسين فاكتفينا من مقاومة السلطان بالسخرية منه، والمضحكون الكبار لا يجرؤون على نقد النظام إلا كناية بالرموز، فنظنهم أبطالًا يقولون كلمة الحق عند سلطان جائر، بينما المخابرات تعتقل من ينبس ببنت شفة.
كأن النقد الساخر حق حصري لهؤلاء، وكانت العامة تتعجب من انتقاد دريد لحام للمخابرات، وأنه يبقى حرًّا، وتغفل عن عناقه بعد المسرحية مع من ينتقدهم، فهو يمزح ناقدا ويعانق جادا، ثم وجدنا أن المضحكين موظفون لدى النظام وينالون منه الثواب والأوسمة. كان دريد لحام قد كشف عن لثامه، أما ياسر العظمة فقد حاول أن ينأى والمنتأى واسع، لكنه سقط و"ما حدش سمّى عليه"، ففي الثورات يصعب الإمساك بالعصا من الوسط.
نحن نضحك من جرأة ياسر العظمة وبطولات دريد لحام، في وقت كانت المخابرات فيه تعتقل الكاتب على كلمة ساخرة أو غير ساخرة
مهما يكن فقد أضحكنا النظام كثيرًا، وكان يقتل في المعتقلات ويعذّب في الدوائر الحكومية والشارع، وينهب في السوق، ونحن نضحك من جرأة ياسر العظمة وبطولات دريد لحام، في وقت كانت المخابرات فيه تعتقل الكاتب على كلمة ساخرة أو غير ساخرة. لقد حوّل النظام آلامنا إلى ضحكات نسلو بها ونتعزى ونتوهم الشجاعة وقول الحق كما في قول شهير لعزيز نيسن بعد إصلاح له.