أدوات خطابية.. من اللحظة الحاسمة إلى الفرصة الأخيرة

2024.09.03 | 06:14 دمشق

453686868686868686868
+A
حجم الخط
-A

نفّذ وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، جولته التاسعة إلى منطقة الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر 2023، والتي تزامنت مع اليوم 318 من العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة.

وقد استهل بلينكن جولته بالتركيز على مصطلح "الفرصة الأخيرة"، حيث قال بلينكن في أثناء افتتاحه محادثات مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في تل أبيب: "هذه لحظة حاسمة، وربما تكون أفضل فرصة، وربما الأخيرة، لإعادة الرهائن إلى ديارهم، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار، ووضع الجميع على مسار أفضل للسلام والأمن الدائمين".

لم يكن مصطلحا "الفرصة الأخيرة" و"اللحظة الحاسمة" مرتبطين بجولة بلينكن التاسعة فحسب؛ ففي جولته الثامنة للمنطقة في 10 يونيو 2024، استخدم بلينكن أيضًا مصطلح "اللحظة الحاسمة" في مؤتمر صحفي له في القاهرة، حيث قال: "انظروا، إنني أعتقد أن هذه "لحظة حاسمة"، لأننا نرى الإمكانية، نرى احتمال التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار وإعادة جميع الرهائن إلى ديارهم والسير على طريق حل دائم للصراع في غزة".

سبق الرئيس الأميركي جو بايدن، وزير خارجيته في استخدام مصطلح "الفرصة الأخيرة". ففي مطلع يونيو 2024، قال الرئيس بايدن إن مقترحه لوقف إطلاق النار في غزة هو بمثابة "فرصة أخيرة" لإنهاء الحرب. وقد رد مكتب نتنياهو حينها ببيان على هذا المقترح بالقول إن شروط إسرائيل لإنهاء الحرب لم تتغير.

وكذلك الحال، تم التأكيد في أكثر من مرة من البيت الأبيض على فكرة ضيق الوقت؛ ففي 16 أغسطس 2024 تم التأكيد في بيان مشترك مع الوسطاء على أنه "لم يعد هناك متسع من الوقت لنضيعه أو تبريرات للتأخير من قبل أي طرف. لقد حان الوقت للإفراج عن الرهائن والمعتقلين والشروع في وقف إطلاق النار وتنفيذ الاتفاق".

وبالعودة إلى تصريحات بلينكن الأخيرة، فقد كرر مفهوم "الفرصة الأخيرة" بأكثر من صيغة، من قبيل "كلما طال أمد النزاع سيعاني الرهائن أكثر وسيلقون حتفهم"، و"بالنسبة لنا هناك شعور بضرورة الاستعجال للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار".

وقد حظي سلوك الولايات المتحدة في موضوع وقف إطلاق النار منذ بداية العدوان بانتقادات كبيرة، ومنها ما كتبه جوليان بورجر في "الغارديان"، حيث انتقد بورجر شرح بايدن لمقترحه لإنهاء الحرب بقوله إن الوقت حان أخيرًا لإنهاء هذه الحرب لأن بايدن بنى خطته على مقترح إسرائيلي، فيما لم ترد أي أنباء من إسرائيل حينها تؤكد ذلك. وبعدها صدر بيان عن مكتب نتنياهو يقول إن أي خطة لا تحقق أهداف الحرب الإسرائيلية غير قابلة للتنفيذ. وكما يقول بورجر، بدا أن لغة نتنياهو كانت مصممة لإذلال بايدن، حيث يقول إن أي خبير في مجال الإعلام كان سيعرف أن عبارة "غير قابلة للتنفيذ" ستظهر في عناوين الصباح بجوار صور بايدن وهو يقدم عرضه من أجل السلام. وإلى يومنا هذا، لا يزال مسؤولو الإدارة الأميركية، وعلى رأسهم بايدن وبلينكن، يستخدمون مصطلحات تشير إلى اقتراب التوصل للاتفاق مع نفس الخطة الأساسية التي انهارت في محادثات القاهرة قبل عدة أشهر.

وجود مساعدات إنسانية بسيطة لسكان قطاع غزة يمكن أن تخفف من شعور القاعدة الليبرالية بالذنب وتعمل على إخفاء الفشل السياسي للإدارة الأميركية.

لماذا يتم استخدام مصطلح "الفرصة الأخيرة"؟

يقول لورانس فريمان، كبير الباحثين في مركز الدراسات الدولية، في مداخلة له على قناة الجزيرة تعليقًا على تصريحات بلينكن، إن الإدارة الأميركية ووزارة الخارجية الأميركية ومسؤولين آخرين يعبرون باستمرار عن التفاؤل والإيجابية والاقتراب من إنجاز الفرصة في إطلاق سراح الرهائن ووقف الحرب، خاصة مع جهودهم المتعددة مثل جولات بلينكن التي تمت للمنطقة والتي بلغت 9 جولات. فهناك الكثير الذي يتم استثماره بما يخدم العملية الانتخابية الحالية لإرضاء الشباب وفئة العرب والمسلمين الأميركيين".

ويضيف فريمان: "أنه إذا لم يتم إنجاز هذا العمل فلن يتم الوثوق في بلينكن، والأمر سيان بالنسبة لبايدن وبقية الإدارة الأميركية"، وعلى الأقل هم يريدون الظهور بأنهم حاولوا ومستمرون في المحاولة وبذلوا أقصى جهدهم، لذلك يتم استخدام مصطلح الفرصة الأخيرة.

ويمكن تفسير الدمج بين الخطاب والجهود البسيطة للولايات المتحدة في خدمة سياستها وصورتها من خلال ملف آخر من ملفات الحرب في غزة، حيث يشير الكاتب وليام برونو في مقال له في "كورنت أفيرز" حلل فيه الخطاب والإجراءات في الملف الإنساني إلى أن "وجود مساعدات إنسانية بسيطة لسكان قطاع غزة يمكن أن تخفف من شعور القاعدة الليبرالية بالذنب وتعمل على إخفاء الفشل السياسي للإدارة الأميركية، حيث يرى أن الدولة الأقوى في العالم تمنح دولة أخرى تفويضًا مطلقًا لارتكاب مذابح ضد عشرات الآلاف من المدنيين من خلال موافقتها الصريحة ودعمها المادي".

دلالات مصطلح الفرصة الأخيرة

يمكن للوسيط أن يوظف محدودية الوقت لحث الأطراف على الاقتراب من الحل من خلال إشارته إلى أن الفرصة الحالية قد لا تتكرر، ولكن في حالة الولايات المتحدة التي قامت بنفسها باستخدام حق النقض "الفيتو" ضد وقف إطلاق النار في فبراير 2024، فإن هناك شكوكًا منطقية حول هذا الأمر.

في مارس 2024، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن مشروع القرار الذي اقترحته الجزائر بمجلس الأمن الدولي بشأن وقف إطلاق النار في غزة والذي يدعو لوقف الهجوم الإسرائيلي في رفح غير متوازن، ثم بعد ذلك رفضت الولايات المتحدة إدراج عبارة "وقف إطلاق نار مستدام" في مشروع القرار. وعندما تم استبدال ذلك بعبارة "الدائم غير المطلق"، امتنعت الولايات المتحدة عن استخدام الفيتو. وقال حينها جون كيربي، رئيس مجلس الأمن القومي، إن هذا "قرار غير ملزم"، ولن يكون له أي تأثير على قدرة إسرائيل على ملاحقة حماس.

ومن زاوية ثانية، تستفيد الإدارة الأميركية من توظيف مصطلح الفرصة الأخيرة في خدمة هدف ظهورها كمعنية ومهتمة بالوصول لحل، وتظهر للرأي العام أن لديها صورة واضحة للمستقبل ترتبط بدورها الحثيث في التوصل لحل.

وتنسجم مع هذا الأمر إجراءات أميركية أخرى مثل تلك المستخدمة لإظهار الوجه الإنساني، فقد شبّه وليام برونو في مقاله في "كورنت أفيرز" ما سماه سجل الولايات المتحدة الطويل من "الإنسانية" المشكوك فيها باقتراح بايدن غير الفعال لوقف إطلاق النار.

وقد أشار برونو إلى أن عمليات إسقاط المساعدات الغذائية جوًا وبناء رصيف مساعدات عائم على ساحل غزة لم تكونا محاولتين صادقتين للاستجابة الإنسانية، بل كانتا محاولتين تهدفان إلى صرف الانتباه عن التواطؤ الأميركي في الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة.

إن فكرة الوضوح والتحديد من خلال تكرار مصطلحات من قبيل "الفرصة الأخيرة" و"اللحظة الحاسمة" هي أدوات خطابية ودعائية تحاول تقوية صورة متخذ القرار، وتخفيف سلبية صورة النهج المتردد.

فكرة الحسم والقرار

يخدم مصطلح "الفرصة الأخيرة" فكرة الحسم والقرار، ويظهر الجهة المطالبة بذلك بأنها جهة قرار تتجنب التأجيل والتردد، كما يضفي على دورها المزيد من الأهمية.

ومن الناحية النفسية، يوحي للرأي العام بأن جهودها ترتبط بأمل التوصل للحل. وكذلك يفيد استخدام مصطلح "الفرصة الأخيرة" في عملية الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، حيث يستخدم التوقيت كنقطة تحول، وهي عملية تخدم تقوية فكرة صانع القرار، خاصة عندما يكون متهمًا بالتردد والضعف في عملية اتخاذ القرار.

وبالفعل، وصف تقرير تولوس أولورونيبا وجاكلين أليماني في "واشنطن بوست" نهج بايدن بالنهج المتردد تجاه الحرب في غزة، مستشهدًا بالتقرير الذي تم تقديمه إلى الكونغرس في مايو 2024، والذي أثار انتقادات من مختلف أطياف الساحة السياسية. ووفقًا للتقرير، فقد اختفى الثناء الذي تلقاه بايدن من الحزبين على استجابته المبكرة لهجوم 7 أكتوبر في البداية، وحل محله انتقاد واحتجاج على سلوكه المتردد.

ويؤكد راسل رايلي، المؤرخ في مركز ميللر بجامعة فرجينيا، هذا النهج المتردد من بايدن إزاء الاحتجاجات الداخلية بقوله: "هناك مجموعتان كبيرتان من الناخبين في الولايات المتحدة؛ إحداهما تريد من الرئيس أن يوقف الغضب، والثانية تريد منه أن يحل القضايا التي خلقت الغضب. والمشكلة الأساسية التي واجهها بايدن هي أنه لا يتمتع بسلطة حقيقية للقيام بأي من الأمرين".

ومن قبيل ذلك، ما قاله بايدن في مقابلة مع "سي إن إن": "إذا دخلوا رفح فلن أقوم بتزويدهم بالأسلحة التي استخدمت تاريخيًا"، ولكن هذا الموقف لم يكن له انعكاس على الواقع، وظلت إسرائيل مؤهلة لتلقي الأسلحة والقذائف من الولايات المتحدة، وهو ما لقي انتقادات حادة بين الشباب الأميركيين بشكل خاص ومجموعات أخرى تنتمي بالأساس للطيف السياسي المؤيد لبايدن.

ولهذا، فإن فكرة الوضوح والتحديد من خلال تكرار مصطلحات من قبيل "الفرصة الأخيرة" و"اللحظة الحاسمة" هي أدوات خطابية ودعائية تحاول تقوية صورة متخذ القرار، وتخفيف سلبية صورة النهج المتردد. ويؤكد رايلي هنا أيضًا أنه لم يبقَ الكثير من الأدوات للإدارة الأميركية سوى هذه الأدوات بقوله: "إنه منذ مايو 2024 وحتى الانتخابات، فإن الأدوات الوحيدة المتاحة للإدارة الديمقراطية هي الرمزية والخطابة، ولا يبدو أن هذه الأدوات قادرة على مواجهة التحدي الحالي الذي يواجهه البيت الأبيض".

لم تنتبه واشنطن إلى أن تكرار استخدام مصطلح "الفرصة الأخيرة" مع الفشل المتكرر في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يؤثر سلبًا في الواقع على دور الولايات المتحدة.

الفرصة الأخيرة تاريخيًا

لم يكن استخدام مصطلح "الفرصة الأخيرة" يخدم دائمًا فكرة حث الأطراف، خاصة إذا كان هناك تباعد كبير بين وجهات النظر. ففي نوفمبر 1947، عقد مؤتمر لندن لمجلس وزراء الخارجية وأطلق عليه مؤتمر "الفرصة الأخيرة"، ومع ذلك لم تتوصل القوى الغربية الثلاث مع الاتحاد السوفييتي إلى حلول لكثير من المشكلات العالقة. وعندما تمت محاولة فرض وقائع جديدة على الأرض، وعملت القوى الغربية على تنشيط مناطق احتلالهم اقتصاديًا، اندفع الاتحاد السوفييتي لفرض حصار على برلين في يونيو 1948 وقطع كل الطرق والخطوط الحديدية.

وفي هذا السياق أيضًا، كان هناك تطوير للمقترحات من أجل التوصل إلى حل. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجانب الأميركي قدم في مارس 1944 اقتراحًا لتقسيم ألمانيا عبر وجهة نظر الرئيس الأميركي روزفلت، لكنه لم يكن مقترحًا مكتملاً، ثم فضّل الرئيس الأميركي المقترح البريطاني لأنه وجد فيه إرضاء لجميع الأطراف.

وعلى المستوى الفلسطيني، وبالنظر إلى تجربة المرحلة الثانية من المفاوضات حول صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس من 2009 إلى 2010، كشفت مصادر صهيونية أن مبعوث رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت قال في المفاوضات التي جرت في العاصمة الفرنسية باريس إن الأيام المتبقية من حكم أولمرت ستكون الفرصة الأخيرة للمفاوضات حول الصفقة بالشكل الذي تُطرح فيه، ولكن الصفقة تمت في عهد الحكومة التي جاءت بعده وبشروط المقاومة الفلسطينية.

المصطلحات لن تغطي على الواقع

يقول الباحث الأميركي مايكل مونروي في تعليقه على الفشل في التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار إن "الولايات المتحدة لن تضع حدًا نهائيًا للوساطة. ومع أن الدور الأميركي سيتراجع وسيظهر هذا في تقليل إرسال وزير الخارجية ورئيس المخابرات مع تكرار نفس النتيجة، إلا أن الولايات المتحدة ستبقى موجودة في جهود الوساطة"، وهذا ما يؤكد الاستمرارية في استخدام هذه الأدوات.

على كل الأحوال، لم تنتبه واشنطن إلى أن تكرار استخدام مصطلح "الفرصة الأخيرة" مع الفشل المتكرر في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يؤثر سلبًا في الواقع على دور الولايات المتحدة، وقد يؤدي إلى تكريس الموقف الضعيف، حيث إن الكلمات والمصطلحات لن تستمر طويلاً في التغطية بنجاح على حقائق الواقع. كما أن الاستمرار في استخدام هذه الأدوات من قبل قوة عظمى، بدلاً من الضغوط المادية لتطبيق وقف إطلاق النار، يقدم مؤشرًا سلبيًا.