لا شك أن المعارضة السورية، والتي نقصد بها أطياف المعارضة الرسمية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والدول الحليفة والصديقة، ارتكبت العديد من الأخطاء السياسية الفردية والجماعية وعلى كل المستويات، ويرجع ذلك للعديد من الأسباب، يأتي في مقدمتها عدم توفر الخبرة السياسية في التعامل مع قضايا وملفات كبيرة على مستوى العلاقات الدولية السياسية والأمنية، فضلا عن عدم وجود -ضمن مؤسسات المعارضة- أي شخصيات مارست العمل السياسي الرسمي على ذاك النحو من الأهمية والعمق. المعارضة السورية منذ بداية تأسيسها حصلت على دعم دولي سياسي ومالي، وفي الحقيقة هي بحاجة لكل أشكال الدعم للمحافظة على بقائها واستمراريتها، وللمحافظة على الدعم لابد من توفر حليف قوي يشترك مع المعارضة السورية بالمصالح السياسية والأمنية لتكون دافعاً لتحمل الحليف أبعاد وتبعات الملف السوري دون التنازل عن الثوابت الأساسية له، وكل ذلك يتحقق بالارتباط بحليف مستقر. وانطلاقاً من ذلك نركز في هذه المقالة على أخطاء المعارضة السورية في عملية تشكيل شبكة علاقاتها الخارجية مع الدول.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المقالة لا تنتقد أي نظام سياسي لأي دولة بل تناقش بنية وواقع النظام السياسي الحالي للدول التي تتعامل معها المعارضة الآن، وتم مناقشة مثالين فقط لدول إقليمية وهما من ضمن الدول الفاعلة في الملف السوري.
في البداية لابد من التوضيح أن على المعارضة رسم مثلث هرمي للعلاقات الخارجية ترتب فيه الدول من حيث الأهمية، دول حليفة، ودول صديقة، ودول مضطرة للتعامل معها في سبيل تحقيق المصلحة من ملفات ذات أبعاد مشتركة، ودول أخرى لابد من تشبيك العلاقات معها لكسب تأييدها للثورة السورية في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية. وتعتبر مؤسسات المعارضة ضعيفة، فهي بأمس الحاجة للعلاقات على كل المستويات بما يخدم قضايا السوريين في التطلع للحرية وإنهاء نظام الأسد والنهوض بسوريا.
لنفترض في هذه المقالة أن المعارضة السورية ارتكبت أخطاءً فادحة في عملية تأسيس تحالفاتها الدولية من جهة الاعتماد على دول أنظمتها السياسية غير مستقرة، ولم تحظ بحلفاء إقليميين أنظمتهم السياسية تتميز بالاستقرار.
تركيا نظام سياسي غير مستقر (حليف)
لا يخفى على أحد أن الحليف الإستراتيجي الأساسي للمعارضة السورية في الوقت الحالي هي الدولة التركية وخاصة الحزب الحاكم (حزب العدالة والتنمية)، وغالبية مؤسسات المعارضة السورية تقبع داخل أراضيها، والقوات والجيش التركي والمؤسسات التركية توجد في مناطق سيطرة المعارضة في سوريا. وقد تم تصنيف تركيا تحت بند الحليف غير المستقر لعدة أسباب: أولاً، التعامل مع الملف السوري كمتغير في السياسة الخارجية، بمعنى التعامل مع سوريا قد يتغير بحسب التطورات التي قد تحدث فارقاً بالنسبة لمصالح تركيا، على سبيل المثال فيما يتعلق بالملف الأمني، أصبح احتواء وإنهاء "قسد" نقطة مهمة على صعيد الأمن القومي التركي، ومع نهاية احتواء المجموعات العسكرية غير النظامية مثل قسد ستنخفض أهمية الملف السوري لدى تركيا. ثانياً، النظام السياسي في تركيا جمهوري ديمقراطي وتغير الحزب الحاكم أو بقاؤه هي سيناريوهات قائمة، والحزب الحالي وتعامله مع الملف السوري ليس بالضرورة أن يكون مشابهاً لحزب تركي آخر. ثالثاً، الخريطة السياسية الداخلية في تركيا غير مستقرة لتعدد الأجنحة السياسية والاقتصادية، فعلى سبيل المثال توجد طبقة من السياسيين وضباط الجيش لهم توجهات مؤيدة للاتحاد السوفييتي سابقاً وروسيا حالياً، أيضا بالطرف المقابل توجد طبقة كبيرة لديها توجه نحو الدول الغربية، مع التأكيد على أن منهج الدولة السياسي والاقتصادي والعسكري الحالي هو غربي. اقتصادياً يوجد جناح منظمة "التوسياد" وهي عبارة عن مجموعة من رجال الأعمال يستحوذون على 50% من الاقتصاد التركي وتربطهم بأميركا علاقات قوية، كما تحظى المنظمة بثقل سياسي كبير، فبحسب الدكتور محمد جنبكلي في عام 1979 اختلفت منظمة التوسياد مع الرئيس التركي السابق أجاويد، فأسقطت حكومته، بعد قيامهم باحتكار السلع الغذائية مما تسبب في رفع أسعار وفقدان العديد من السلع في الأسواق، ونتج عن الأزمة في نهاية المطاف استقالة الحكومة. بالمقابل توجد منظمة "الموصياد" التي تسهم بـ 18 % من اقتصاد تركيا ولها توجه إسلامي إلى حدٍ ما، وتحاول منافسة وانتزاع سلطة منظمة التوسياد على الاقتصاد التركي. وتختلف كل الأجنحة السياسية والاقتصادية بالأدوات والأهداف لتخلق حالة من عدم الاستقرار الداخلي للبلاد. ولدى الأجنحة السياسية والاقتصادية سابقة الذكر تأثير كبير على القرار السياسي في البلاد. رابعاً، طبيعة الاقتصاد التركي المستند على التصدير والخدمات مما يجعله مرتبطاً بشكل كبير بالتغيرات السياسة الخارجية للدولة، لذلك قد تضطر الدولة في بعض الأحيان لحماية تجارتها الخارجية من خلال ابتعادها عن أي سلوك خارجي قد يؤدي إلى قطع التجارة والخدمات، على سبيل المثال بعد إسقاط تركيا للطائرة الروسية أوقفت موسكو كل الواردات من أنقرة، حيث تعتبر روسيا مصدراً رئيسياً لموارد الطاقة لتركيا. أيضاً استغلت روسيا الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي تعاني منها تركيا، وقدمت لأنقرة عرض توريد ثلث وارداتها من الغاز مسعرة بالروبل، فضلا عن تقديم روسيا قروض للبنك المركزي التركي. وقد تضغـط روسيا على تركيا لقاء تقديم تسهيلات مالية لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد، وقد شهدنا في الفترة الأخيرة نقلة نوعية في عملية تطبيع العلاقات بين تركيا ونظام الأسد.
كل ما تم طرحه من معطيات عدم الاستقرار في تركيا وهي حليف للمعارضة السورية سيضع الأخيرة في حالة ضعف وتشتت وعدم القدرة على اتخاذ أي موقف أو سلوك قادر على حماية مصالح المعارضة في سوريا التي ربما قد تختلف مع مصالح تركيا الحليف غير المستقر والتي تبحث عن مكتسبات خارجية. وعدم إدراك ودراسة المعارضة لكل هذه المعطيات وضعها في مأزق صعب في ظل عدم وجود حليف إقليمي بحجم تركيا تستند عليه في الوقت الحالي.
السعودية نظام سياسي مستقر (صديق)
السعودية دولة إقليمية كبيرة مؤثرة على الساحة الإقليمية والدولية، وتصنف في الوقت الحالي كصديق للمعارضة السورية ولا يمكن تصنيفها كحليف بعدما ابتعدت المعارضة عن تشبيك وتوثيق العلاقات معها، وانجرت وراء اصطفافات تبعدنا عن تحقيق مصالحنا كسوريين في الحرية والتخلص من النظام المجرم. السعودية نظام سياسي مستقر بدرجات عالية، ويرجع ذلك لطبيعة تكوين نظامها السياسي القائم على أساس الملكية، إضافة إلى كونها دولة غنية بموارد الطاقة، وتمتلك مقومات اقتصادية ضخمة ومؤثرة في الاقتصاد العالمي.
يصنف الملف السوري من ضمن الثوابت في السياسة الخارجية السعودية، لأن الأخيرة تعتبر نظام بشار الأسد فاعلاً داعماً لعدم الاستقرار في المنطقة، وحليفاً تاريخياً إستراتيجياً لإيران وامتداداً لمشروعها الطائفي والسياسي، وهذه النقطة من أهم المشتركات بين المعارضة السورية والسعودية، أيضاً الأخيرة لا تمتلك علاقات استراتيجية مع الروس، وحجم التجارة المتبادلة جداً منخفض. فالسعودية باستقرار نظامها السياسي وامتلاكها اقتصاداً قوياً ناتجاً عن امتلاكها أضخم احتياطي للنفط في العالم، وموقفها الرافض لإيران بعد تدخلها في سوريا يجعل منها حليفاً للمعارضة السورية لا غنى عنه.
يبدو أن المعارضة السورية أثناء مرحلة تأسيس علاقاتها الخارجية لم تدرس ولم تفرق جيداً بين طبيعة الأنظمة السياسية للدول التي لابد من أن تتحالف معها بشكل وثيق، وبين الدول التي تتميز بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي تاريخياً. مما وضع المعارضة في حالة من فقدان البوصلة والهدف والتراجع والانكفاء.