لم يعد هناك مجال للشك بأن منطقة الشرق الأوسط ستشهد تحولات على مستوى توسع نفوذ المحور العربي مقابل انحسار المحور الذي تقوده إيران.
فالحرب الإسرائيلية على لبنان وتصفيتها لمعظم قيادات حزب الله، وعلى رأسهم حسن نصر الله، إلى جانب عدم توقف الضربات الجوية المتتالية على مناطق متفرقة من سوريا، ولا سيما العاصمة دمشق، وسلوك النظام السوري الذي تجاوز كل حدود النفاق السياسي بعدم إظهار أي دعم لحليفه حزب الله عبر المحافظة على هدوء حدوده مع إسرائيل ومنع استخدام أراضيه التي يسيطر عليها لأي عمليات انتقامية إن وجدت من محور المقاومة، كل ذلك يؤشر إلى وجود مشاريع وإعادة تشكيل المحاور في منطقة الشرق الأوسط.
وهذا الكلام ليس عبثيًا، إنما يطرحه العديد من السياسيين حول العالم. ودائمًا في التموضعات الجديدة، تتغير الخرائط السياسية والتحالفات العسكرية والاستراتيجية.
هذه المقالة تحاول تناول تموضع النظام السوري على ضوء انخراطه أو عدم انخراطه في الحرب الدائرة بين إسرائيل وأذرع إيران في لبنان وسوريا واليمن، بناءً على التطورات والتحولات التي تعيشها المنطقة. النظام أمام سيناريوهين يحكمان تمحوره في النظام الإقليمي تبعًا لسلوكه تجاه إسرائيل وأذرع إيران.
السيناريو الأول.. الحياد تجاه إسرائيل والتمحور الجديد
ليس من المستبعد أن يغير النظام السوري اصطفافه وسلوكه في علاقاته الدولية لما تتطلبه المرحلة الحالية وفقًا لمصالحه التي تصب في تثبيت وجوده في الحكم. الدروس التاريخية والحالية تثبت ذلك، ففي عام 1980 وقف مع إيران ضد العراق والجبهة العربية المساندة لها. وفي عام 1991، وقف مع الحشد العربي لتحرير الكويت من القوات العراقية. هذا يوضح التبدل والتغير في السياسات الخارجية للدولة بحسب ما يتطلبه النظام ووفقًا لمصالحه.
في الحرب الحالية التي فرضتها إسرائيل على حزب الله، حليف النظام، لم يظهر النظام أي سلوك عدائي تجاه إسرائيل، بل التزم بالحياد التام، وهو موقف يعتبر إيجابيًا بالنسبة لإسرائيل، وسلبيًا تجاه حلفائه في لبنان وإيران. وإذا ما أعدنا التفكير قليلاً، نجد أن النظام، رغم العلاقات التي تربطه بإيران وأذرعها والتي توصف بالاستراتيجية، ابتعد عن التورط معهم في هذه الحرب.
قد يرى النظام أن دخوله كطرف في هذه الحرب لن يحقق له أي مكاسب على كافة المستويات.
فعليًا، لم تعد إيران تمتلك ما تقدمه للنظام في هذه المرحلة الحالية بالقدر الذي قد يحتاجه من تمويل، في حين قد تكون بعض الدول العربية قادرة على توفير ذلك.
إضافة إلى ذلك، فإن طهران لم تساند حليفها الاستراتيجي حزب الله في الحرب ضد إسرائيل، لانخراطها في مفاوضات مع الولايات المتحدة لرفع العقوبات عنها والإفراج عن أموالها في البنوك. عدم دخول إيران في هذه المعركة ينبع من رغبتها في الحفاظ على النظام السياسي الحالي، لأن أي مواجهة مع إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة قد تؤدي إلى إطاحة النظام أو تحمل خسائر مادية كبيرة لا يمكن لإيران تحملها، لا سيما مع رفض شعبي واسع للنظام الإيراني الحالي، وتراجع أداء اقتصاد البلاد، وحاجة البنية التحتية ومؤسسات الدولة للتطوير.
هذه المعطيات تدفع النظام السوري إلى تجنب الدخول في مواجهة مع إسرائيل، وإذا أُجبر على ذلك، فمن غير المرجح أن يتلقى الدعم كما هو الحال مع حزب الله. النظام السوري يبدو مدركًا لهذه الأمور أكثر من حزب الله، وربما حصل على توصيات من الروس أو الإماراتيين بعدم الانخراط في الحرب، مما يجعل الحياد خيارًا يوفر له خروجًا بأقل الخسائر، بالإضافة إلى انفتاح محتمل على المحور العربي.
ومن جهة أخرى، قد يرى النظام أن دخوله كطرف في هذه الحرب لن يحقق له أي مكاسب على كافة المستويات. ولا بد من التنويه إلى أن إيران ضغطت على النظام السوري اقتصادياً في العام 2024 عبر مطالبته بديون مالية تجاوزت 50 مليار دولار قدمتها له منذ عام 2012 على شكل قروض. هذا الضغط الإيراني قد يدفع النظام للهروب من التزاماته تجاه إيران.
دخول النظام في الحرب على الأرجح يتوقف على كيفية قراءة إسرائيل لحشد ميليشيات عراقية ويمنية ومن حزب الله في الأراضي السورية.
السيناريو الثاني.. البقاء ضمن المحور الإيراني واستخدام الأراضي السورية ضد إسرائيل
مؤشرات سلوك النظام تجاه دعم حلفائه في لبنان ضد إسرائيل أقل من مؤشرات الحياد. فاقتصر سلوك النظام على التغاضي -إن صح التعبير- عن تدفق السلاح إلى قوات حزب الله عبر الحدود السورية، والسماح بحشد عناصر من الميليشيات العراقية واليمنية التي تستعد لمساندة حزب الله أو لسد فراغ قواته التي كانت منتشرة في سوريا.
حتى تاريخ كتابة هذه المقالة، لم يصدر عن النظام السوري أي مؤشرات على مبادرة عدائية ضد إسرائيل، ومن غير المرجح أن يصدر. دخول النظام في الحرب على الأرجح يتوقف على كيفية قراءة إسرائيل لحشد ميليشيات عراقية ويمنية ومن حزب الله في الأراضي السورية، إضافة إلى تهريب السلاح إلى لبنان بدعم من إيران. تبقى إسرائيل أمام احتمالين للتعامل مع النظام: هل هو من يسمح ويسهل عمليات تهريب السلاح إلى لبنان؟ أم أنه غير قادر على السيطرة على تلك القوات المدعومة من إيران؟ الاحتمال الأول يدخل النظام في الحرب، والثاني يخرجه من المعادلة.
برع النظام السوري على مر التاريخ في عقد صفقات التحالفات، وليس من المستغرب أن ينهي تحالفه الحالي مع محور إيران، بهدف الحفاظ على نظامه وسلطته في البلاد. ولكن ما إمكانية فعالية أن يكون النظام قادر على تطبيق انتهاج الحياد تجاه الحرب بين حزب الله وإسرائيل، إضافة إلى فتح مجال لانفراج سياسي واقتصادي على الصعيد الإقليمي؟