في عام 1988 كنا معاقبين في سجن صيدنايا، والعقوبة هناك إن لم تكن في الزنازين، فهي في "الباب الأسود"، والباب الأسود هو الجزء الأمامي من الجناح ب "يمين" في الطابق الثالث، ويضم فقط أربعة مهاجع، تم بعدها بناء جدار ليقطع هذا الجزء عن باقي الجناح، وعن المهاجع الستة المتبقية. والباب الأسود كما يوحي اسمه، مغلق بإحكام بمواجهة أي تواصل مع باقي أجنحة السجن ومخصص للعزل. كنا هناك جورج وأسامة وإبراهيم وياسر وأنا. بعد فترة من عقوبة العزل اختلط علينا الزمن، وأضعنا تاريخ اليوم أو في أي يوم كنّا. في زمن السجن المديد لم يكن هذا مهماً، ولا حتى نادر الحدوث.
في إحدى الليالي قدّرنا مع بعض الحسابات التقريبية، أن يوم الغد هو اليوم الأول من أيام عيد الأضحى. جورج الرومانسي بدأ كعادته بطرح الأسئلة الموجعة: "بمتل هاليوم، شو بيكونوا أهلك عم يعملوا هلق؟". هذا السؤال البسيط والمرتجل فتح سيلاً من الذكريات لدى رفاق المهجع الخمسة. ذكريات ليالي العيد من الطفولة وحتى يومنا ذاك (طبعاً كنا مازلنا ممنوعين من الزيارة، ولا يوجد أي تواصل مع الأهل) وذهبنا أبعد من ذلك فرُحنا نتخيل ما يمكن أن تكون عائلاتنا تفعله الآن في هذه اللحظة، وفي هذه الليلة بالذات.
كل منّا راح يروي حكايات وطرافات ليلة العيد، خصوصاً في الطفولة حيث كان العيد يعني الكثير. كانت ليلتنا مشحونة بعواطف من النوع الذي يجتاح ويُهتّك الروح، خصوصاً لأناس معزولين عن الحياة وعن العالم الخارجي. ليلتها، كان أكثر ما خطر لي شخصياً طفلتي التي تركتها قبل حوالي السنة وهي بعمر الأربع سنوات. في آخر عيد قبل اعتقالي، قررتُ ومعي زوجتي أن نجعل ابنتنا تتعرّف على العيد، أو حسب تعبيرنا يومها، سنجعلها تكتشف العيد. جهزنا لها قبل فترة مجموعة ألبسةٍ دون أن تراهم، إضافةً لعدد من ألعاب الأطفال، خصوصاً من ذاك النوع الذي يصدر الضجة والصفير، مما يسبب سعادة استثنائية للأطفال عبر إحساسهم بتأثيرهم
"في ليلة الباب الأسود تلك، ورغم رواية الطرافات التي تستدعي بعض الابتسامات، إلا أنها كانت طرافات تُروى كحسرةٍ آفلة وبعيدة المنال، وتفتح في القلب حزناً أعمق أكثر مما تتيح من ابتسامات باهتة."
الصوتي المبالغ فيه على المحيط. أردناها أن تكتشف بشكل لافت أن يوم العيد هو يوم مميز ويتيح بهجة مختلفة. وهذا ما حصل فعلاً عندما فتحت عينيها لتكتشف صباحاً مختلفاً عن أي صباح آخر.
في ليلة الباب الأسود تلك، ورغم رواية الطرافات التي تستدعي بعض الابتسامات، إلا أنها كانت طرافات تُروى كحسرةٍ آفلة وبعيدة المنال، وتفتح في القلب حزناً أعمق أكثر مما تتيح من ابتسامات باهتة. تحدثنا عن ثياب العيد الجديدة وصناعة الحلوى المنزلية، عن العيد واحتفالاته ولم ننسَ "العيديّة" التي كنا نجمعها من الأعمام والأخوال لنصرفها دون حسيب أو رقيب، في استثناءٍ لا يتيحه إلا يوم العيد.
جاء موعد النوم، لكنّني لم أنم. من فراشي تابعت ليلتي، وكأنني أشارك في التجهيز لصباح اليوم التالي، وما يمكن أن أفعلهُ ليكون عيد ابنتي في سنتها الخامسة أحلى، ولم أعرف تماماً متى غفوت.
صباحاً عندما فتح الشرطي الباب ليُدخل الفطور، سأله أحد الأصدقاء: اليوم العيد؟. استغرب الشرطي سؤاله وأجاب: العيد خلص. ما كان لجواب الشرطي في حالة أخرى، أن يشكل صدمة لأناس مثلنا، لا يهتمون كثيراً بِعدِّ أيام السجن الذي يتوقعونه أن يطول لسنوات، ولكن بعد تلك الليلة، أربكني هذا الجواب من الشرطي. اللعنة، كان على أول أيام العيد أن يكون اليوم، ولو من باب المجاملة لهؤلاء الخمسة الذين استُنزِفوا ليلة أمس وهم ينخرطون في "ميلودراما" القحط تلك. نعم، كان على أول أيام العيد أن يكون صباح اليوم، على الأقل لتفادي ذاك الانزياح العاطفيّ الرهيب الذي أحدثه فارق زمن السجن عن زمن الحياة. لكن يومها كان لجدران السجن ولصفيح بابه الأسود رأي آخر.
لشدّة العبث الذي يكتنف السجن السوري عموماً، يطيب للسجناء وبدفعٍ من الحاجة، أن يعيدوا ترتيب مجريات حياتهم، أو على الأقل العديد من تفاصيلها. لم أكن استثناءً، وكثيراً ما أنهكتُ لياليَّ وأنا أفترض عمري مصاغاً قابلاً لإعادة التشكيل بصورة أجمل، وأنا الصائغ الذي سيفعل ذلك. لو أن هذا الخيط المتعرج مرَّ من هنا. أو ربما كان على تلك الانحناءة أن تكون أكثر حنوَّاً. لو أن ذاك كان قوساً بدلاً من تلك الزاوية الحادة المتجهمة. ماذا لو كان هناك نقش وردة فوق تلك المساحة المصمتة. يا الله أما كانت تلك التعديلات ستعطي هذا العقد الذي يفتقد اللمسة المبدعة حركة تبعث شيئاً من الروعة، ولو تواضعت الأحلام، شيئاً من الحياة.
بعد ليلتنا المريرة تلك، مرّت علينا سنوات وأعياد كثيرة، ومع ذلك لم أستفد من قسوة تجربة الاستنزاف الروحي لليلة الباب الأسود. ففي كل ليلة عيدٍ تاليةٍ، كنت أتسلل من فراشي متجاوزاً الجدران وعشرات الأبواب السوداء، لأنهمك في اختيار ملابس العيد الجديدة لابنتي كي يكون عيدها مبهجاً. بعد سنوات وبعد أن غادرت السجن كانت ابنتي قد وصلت للعمر التي تختار ثيابها بنفسها مُضَيّعةً عليَّ أن أنفّذ شيئاً من أحلام ليالي السجن الطويلة تلك.