لم يشعر السوريون في مناطق سيطرة النظام بأي تحسن معيشي منذ الإعلان عن عودة بشار الأسد إلى الجامعة العربية، وما سبقها من ترويج إعلامي واسع لصحف النظام ومؤسساته الإعلامية من أن "طاقة الفرج" ستفتح مع تطبيع العلاقات بين "سوريا" والدول العربية، وستبدأ الاستثمارات العربية بالقدوم إلى دمشق.
وبدأت حالات التململ وحدة الانتقادات تزداد من قبل السوريين، خصوصاً في الساحل السوري، حيث وصلت إلى درجة غير مسبوقة، ما قد ينبئ بتغيرات كثيرة في تعاطي النظام مع القاعدة الاجتماعية التي أيدته طوال سنوات الحرب التي قادها على السوريين.
أزمات متزايدة
مر أكثر من شهرين على قمة جدة، والتقاط بشار الأسد الصور مع الزعماء العرب المشاركين بالقمة وتوزيعه الابتسامات يميناً وشمالاً، إلا أن تدهوراً اقتصادياً دراماتيكياً شهدته مناطق سيطرته مع تراجع قيمة الليرة السورية إلى أدنى مستوياتها ووصولها إلى أكثر من 13 ألف ليرة لكل دولار، بعد أن كانت 8850 ليرة يوم عقد القمة في 19 أيار الماضي.
روج النظام منذ وقوع الزلزال المدمر في شمالي سوريا وجنوبي تركيا، بأن الوضع سيتغير كلياً للأفضل، خصوصاً مع عودة العلاقات مع عدة دول عربية وفي مقدمتها السعودية والزيارات الدبلوماسية التي شهدتها الأشهر الخمسة الماضية، بما فيها الزيارة البارزة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق، محاولاً إبراز قوة طهران ونفوذها في سوريا.
بدأ التراجع الاقتصادي بشكل فعلي بعد تراجع حدة المعارك والعمليات العسكرية التي يقودها النظام السوري مدعوماً من روسيا وإيران منذ عام 2018، حيث فقد النظام الكتلة المالية للقطع الأجنبي الذي كان يأتي من الحرب وبيع الأسلحة، مع فشله في تحسين الوضع المعيشي للناس في ظل تفشي الفساد في كل مفاصل الدولة.
ورغم أن النظام السوري يختلق الأزمات الاقتصادية منذ تأسيسه وهو معروف لدى غالبية السوريين يتجسد في طوابير على الغاز أو الوقود أو الخبز أو الجمعيات التعاونية.
ويبدو أن حجم الأزمات تجاوزت قدرة النظام على التحكم بها، فقد وصلت إلى فقدان البصل من الأسواق وارتفاع أسعاره بشكل غير معقول، والترويج لقروض شهرية لشراء المواد الغذائية أو شراء الأساسيات اليومية بالتقسيط، ما يظهر حجم الكارثة الاقتصادية التي يعيش فيها الناس مع راتب شهري لا يتجاوز الـ 100 ألف ليرة (أقل من 8 دولارات)، ووجود 90 بالمئة من السكان تحت خط الفقر وفق أرقام الأمم المتحدة.
وعود ما قبل التطبيع
وعد النظام السوريين، بأن "طاقة القدر" ستفتح بعد تطبيع العلاقات مع دول الخليج الغنية بالنفط والمال، وركز في وعوده على عدة نقاط أبرزها:
- تحسن الليرة السورية
- زيادة الرواتب والمعاشات
- انخفاض الأسعار أو ثباتها عند حدود معينة
- توفر المنتجات في الأسواق
- تحسن وضع الكهرباء عبر ساعات تقنين أقل
- توفر الوقود بما في ذلك الغاز ومحروقات وسائل النقل
- البدء في إعادة الإعمار
- التطبيع السياسي وعودة العلاقات مع كثير من دول العالم
- بدء رفع العقوبات الأميركية والأوروبية
تطبيع بلا جدوى
وبعد تلك الوعود الكثيرة والمتعددة والمتشعبة أيضاً، ما الذي تمكن النظام من تحقيقه منها؟ لم يحقق أي نقطة أو وعد، حيث انخفضت قيمة الليرة إلى مستويات هي الأدنى في تاريخها، وتحولت الأسعار في سوريا إلى بورصة تتغير على مدار الساعة، وزادت ساعات قطع الكهرباء رغم الصيف وموجات الحر الجديدة إلى أقل من ساعة في اليوم بمعظم المحافظات.
ولم يتحسن وضع غاز المنازل أو تتوفر محروقات النقل المدعوم بشكل أكبر، ولم تبدأ أي مدينة دمرها النظام السوري وطائرات روسيا وميليشيات إيران بإعادة الإعمار.
من الناحية السياسية لم يتمكن النظام من توسيع دائرة التطبيع، رغم عودته إلى مقعده في الجامعة العربية، سوى بعض الزيارات على مستوى الوزراء إلى دول لديها علاقات سابقة مع النظام، مثل العراق وسلطنة عُمان والإمارات.
علاقات مقطوعة وعقوبات مستمرة
وعلى العكس من ذلك جددت الكثير من الدول مواقفها الرافضة للتطبيع مع النظام السوري بدون تنفيذ قرارات مجلس الأمن 2254 وما تم التوصل إليه في محادثات جنيف 1، بما فيها قطر ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة.
ورفعت دول الاتحاد الأوروبي لاءاتها الثلاث أمام النظام السوري، مؤكدة أنه "لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات عن النظام، ما لم يسر بشكل فعّال في الحل السياسي".
وفي بيانات متعددة منذ بدء تطبيع دول عربية علاقاتها مع النظام السوري، أكّدت وزارة الخارجية الأميركية، أن عقوبات واشنطن بحق النظام السوري تشكل أداة ضغط للمساءلة، بشأن ما يرتكبه من انتهاكات، مستبعدة رفعها من دون إحراز تقدم نحو حل سياسي في سوريا.
وصدق مجلس النواب الأميركي على مشروع قرار لمناهضة التطبيع مع النظام السوري قبل 3 أيام من حضور بشار الأسد قمة الجامعة العربية في جدة، وفي 14 من تموز، أعلن "التحالف الأميركي لأجل سوريا"، عن طرح نسخة موازية بدون أي تغيير للنص من مشروع قانون مناهضة التطبيع مع النظام السوري ضمن مجلس الشيوخ الأميركي.
وقال التحالف في بيانه إن "السرعة الفائقة لطرح نسخة مجلس الشيوخ الأميركي تعكس جدية الكونغرس في مناهضة التطبيع والمطبعين، وحظر الاعتراف بأية حكومة سورية يرأسها بشار الأسد".
وهذا التحرك السياسي المهم، متصل بالضرورة بالعقوبات الغربية التي جاءت عبر "قانون قيصر" وما يتعلق بمكافحة المخدرات، ومشروع قانون قمع الاتجار غير المشروع بـ"الكبتاغون" أو ما يعرف بـ (كبتاجون 2) أمام مجلس النواب الأميركي.
ولا بد من الإشارة إلى أن تجارة الكبتاغون التي يقودها النظام السوري بالشراكة مع إيران وحزب الله وميليشيا خليفة حفتر في ليبيا، عبر توريدها إلى الأردن ودول الخليج ودول أوروبية، ما زالت مستمرة، وتضبط سلطات تلك الدول شحنات تهريب مخدرات، يرجح بشكل دائم أنها قادمة من سوريا أو لبنان.
ورغم الأموال الهائلة التي تعود على النظام من تجارة المخدرات، والتي تقدر وفق أرقام أوروبية بـ 50 مليار دولار سنوياً، إلا أن النظام السوري لا ينفق أي شيء منها على تحسين الوضع المعيشي لحاضنته وبالطبع على بقية السوريين القاطنين في مناطق سيطرته.
النقد من داخل المنظومة
الوضع المعيشي المتردي والذي يستمر في التدهور يوماً بعد يوم، دفع سوريين للخروج عبر مقاطع فيديو أو عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي منتقدين الحالة الصعبة التي تعيشها البلاد، عبر سقف نقد يرتفع شيئاً فشيئاً إلى ما كانت محرمات لا يجوز الاقتراب منها.
وعلى سبيل المثال هاجمت الناشطة المؤيدة للنظام السوري لمى عباس في بث مباشر على "فيس بوك" النظام ودعت جميع أبناء الشعب السوري للقيام بثورة ضده، وذلك احتجاجاً على الوضع الاقتصادي والمعيشي المزري الذي وصلت إليه البلاد.
واستغربت "عباس" من صمت وعدم تحرك السوريين الموجودين في مناطق سيطرة النظام لمحاسبة المسؤولين ومساءلتهم عن الوضع المزري الذي آلت إليه البلاد وسط تجاهل وتغافل النظام وحكومته.
وذكرت أن أكثر ما يغضبها هو أن الشعب السوري وصل إلى مرحلة يرثى لها وبات من دون أكل ولا شرب ولا دواء ولا تدفئة ومع ذلك مازال صامتاً ولا يحرك ساكناً ضد النظام ومؤسساته.
وأكدت عباس أنه ليس هناك حلفاء للنظام، بل هم مستعمرون، موضحةً أن حلفاء النظام دمّروا سوريا.. وأن جبال الساحل يتم حرقها، وبعد ذلك يتم بيع الأراضي.
وتساءلت لماذا حلفاء النظام لا يساعدون في إطفاء الحرائق على غرار ما قاموا به مع تركيا وإسرائيل، مؤكدةً أن الحرائق بالساحل تتم بفعل فاعل.
ووفق عباس فإن النظام ينتقم من السوريين من خلال عدم تأمين الخدمات (مياه، كهرباء..)، معتبرةً أن هذا الانتقام ليس له إلا تفسير واحد، وهو أن النظام ينفذ مخططاً خارجياً لإبادة الشعب السوري وطمس ومحو الهوية السورية.
وبعد البث المباشر لـ "لمى عباس" بيوم واحد، شاركت مقطع فيديو، قالت إنه لقوات الأمن التابعة للنظام السوري وهي تحاول اقتحام منزلها واعتقالها، معلقة بالقول: "تم اقتحام منزلي ومحاولة اعتقالي.. الساعة الثانية بعد منتصف الليل من دون إذن قضائي أو أي مذكرة إحضار.. سنبقى صوت الشعب.. تحيا سوريا".
ويظهر صوت لمى عباس وعائلتها يتحدثون مع عناصر من أجهزة المخابرات، حيث طلبت من قائد الدورية أن يأتي "العقيد لؤي" لكي يعتقلها، فيما قالت ابنتها إن هناك "مليار لمى عباس"، في حين هدد ابنها الدورية بأنه يتمالك أعصابه مقابل التعليمات التي تتوجه له في بيته.
من جانبه دعم الناشط المؤيد للنظام بشار برهوم لمى عباس، قائلاً إن "زمن التشبيح انتهى"، موجهاً الشتائم لحزب البعث ووصف "قوى الأمن" بالأذلاء.
والحال نفسه ينطبق على الصحفية الموالية للنظام فاطمة سلمان، التي تنتقد بمنشورات كثيرة على "فيس بوك" الواقع الذي وصلت إليه البلد في ظل حكم النظام السوري، قائلة في أحد منشوراتها "أول شي منفقر الشعب ومنعلن أبوه ومنكره بالبلد بعدها منحرقله أراضيه وشجره (ليمون-زيتون)، بعدها منشتري الأراضي بتراب المصاري يلي بالأصل سرقناها من الشعب عن طريق أتوات الحواجز".
وأضافت أن ذلك يشمل أيضاً "الأرصفة المأجورة (كلبجة) والجمركة وتكامل والأسواق الحرة ووفاتل ونص سيريتل وام تي ان وشركة ايما تل.. الخ .... مشروعكم مكشوف يا خونة جبالنا الخضراء تحترق".
ويبدو أن النظام لا يستخدم العصا الغليظة (التي يستخدمها مع عموم الشعب السوري) مع قاعدته الاجتماعية "الصلبة" تاركاً لهم مساحة الانتقاد، طالما أنهم لا يتوجهون بالنقد لعائلة رئيس النظام بشار الأسد بشكل مباشر.