شهد العام الماضي العديد من الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أطلقتها ناشطات مصريات لفضح المتحرشين، أشهرها كانت حملة "افضح متحرش" و"حق المصريات فين".
هاتان الحملتان تسببتا بفضح شخصيات إعلامية واجتماعية مهمة أشهرهم الصحفي هشام علام، الذي وجهت له اتهامات بالاغتصاب والتحرش ضمن مجال عمله من قبل إحدى عشرة فتاة. وبالرغم من أن الموضوع اكتسح وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن القضاء المصري لم يحرك ساكناً بشأن علام وأمثاله، متحججاً بعدم وجود بلاغات رسمية ضدهم.
هذا النوع من الحملات النسوية لفضح المتحرشين في مصر جذب الفنانات، لكن مشاركتهن فيها كانت شكلية وأشبه بمحاولة لركوب التريند. فلم تستثمر أي فنانة مصرية ما تملكه من قدرة على التأثير لقلب موازين القوى، ولم تساهم أي فنانة بتصعيد الحدث ليأخذ منحى قانونيا جديا، على غرار ما فعلت الفنانات الأميركيات في حملة Me Too، بل لعبن دوراً معاكساً عندما شاركن بالحملة بأسلوب خجول وسطحي، ليتحدثن عن تعرضهن للتحرش دون إثارة البلبة وذكر أسماء المتحرشين؛ إذ صرحت الفنانة مايان السيد بأنها تعرضت لتحرش جنسي من قبل ممثل مصري مشهور لكنها رفضت الكشف عن هويته، ونشرت الممثلة رانيا يوسف صوراً لرسائل ذات محتوى جنسي استقبلتها من أشخاص مجهولين دون أن تذكر أي أسماء. فعلياً لم تساهم أي فنانة بتصعيد موجة فضح المتحرشين بمصر، وتركوا المهمة للناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي، اللواتي تعرضن للضغوطات الاجتماعية والقانونية دون أن يلقوا أي دعم.
هذه الأجواء حفزت الدراما المصرية على إنتاج العديد من المسلسلات التي تُعنى بالقضايا النسوية، أبرزها كان مسلسل "الطاووس" الذي عُرض في الموسم الرمضاني الفائت، والذي لعب دور البطولة فيه جمال سليمان إلى جانب سميحة أيوب وسهر الصايغ. أحداث المسلسل كانت مشابهة لحادثة "الفيرمونت" التي هزت الشارع المصري، حيث يستعرض العمل قصة فتاة تتعرض للاغتصاب من قبل شباب أثرياء وذوي سلطة قاموا بتخديرها وتصوريها في أثناء اغتصابها، ويحاولون من خلال نفوذهم التملص من جريمتهم. لذلك كان هناك العديد من الحملات المضادة التي طالبت بوقف عرض المسلسل، بحجة أن القضية لم يتم البت فيها من قبل القضاء المصري ويمنع استخدام تفاصيلها في أي عمل فني، مما دفع صناع المسلسل والمشاركين فيه إلى نفي ادعاءات الشارع بأن قصة المسلسل مستوحاة من قضية "الفيرمونت" ليدعوا أن أحداثه محض خيال.
فعلياً، لم يكن مسلسل "الطاووس" على قدر التوقعات، فرغم طرحه قضية مهمة تشغل الشارع المصري إلا أن نهايته كانت مجرد تلميع لصورة القضاء المصري، إذ انتهى العمل بحكم القضاء المصري بالإعدام على مغتصبي الفتاة، وهو عكس ما حدث في الواقع بقضية "الفيرمونت"، التي أخلي فيها سبيل المتحرشين بحجة عدم كفاية الأدلة، على الرغم من أن الواقعة مصورة بالفيديو!
هذه المقدمات مهدت لمسلسل "60 دقيقة" المصري الجديد الذي أنتجته شركة الصباح اللبنانية وعُرض على منصة "شاهد" مؤخراً، والذي لعب دور البطولة فيه الممثل السوري محمود نصر، إلى جانب المصريتين ياسمين رئيس وسوسن بدر. فعلياً بدا المسلسل استكمالاً للفكر ذاته، لكن يمكن وصفه بأنه تجربة أكثر نضجاً، حيث يصور قضايا التحرش وتعاطي المجتمع والقانون المصري معها بشكل واقعي وأقرب لما يحدث في الشارع.
أحداث المسلسل
تدور أحداث المسلسل حول طبيب نفسي مشهور يدعى"أدهم نور الدين"، تنتشر حوله عدة اتهامات بالتحرش عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ورغم أنه يستطيع في كل مرة أن يثبت براءته بفضل نفوذه، إلا أن زوجته "ياسمين" تبدأ تشك بسلوكه بعد أن تتواصل معها إحدى ضحاياه، التي كانت امرأة متزوجة حاولت الانتحار، ليصدمها اللقاء وتعيش صراعاً بين إدراك الحقيقة والإنكار، ينتهي برحلة تقصٍ تكتشف فيها جرائم زوجها الذي تجد نفسها غير قادرة على الخروج من شبكته، مما يدفعها إلى قتله في نهاية المسلسل.
يسلط المسلسل الضوء حول ضحايا التحرش وما يتعرضن له من ضعط اجتماعي هائل يمنعهن من اتخاذ أي إجراء قانوني خوفاً من الفضيحة؛ هكذا نجد في كل حكاية طرفاً يضغط لإيقاف الفضيحة، في الغالب يكون أبو الضحية أو زوجها، اللذان يساندان عن غير قصد "أدهم" للاستمرار بسلوكه، علمً أن "أدهم" يستغل علاقاته ونفوذه للتملص من أي قضية مرفوعة ضده. بهذه الطريقة يبين المسلسل الظلم الواقع على النساء في مجتمعاتنا، ويبرر لجوء الضحايا إلى السوشيال ميديا واستخدامها كسلاح لفضح المتحرشين، فهي سلاحهم الوحيد، في ظل تواطؤ القانون ومنفذيه مع المتحرشين وعدم اتخاذ أي إجراءات فعلية لردعهم.
من ناحية أخرى، يركز المسلسل على تابو المرض النفسي، الذي لم تتغير النظرة الاجتماعية منه منذ عشرات السنوات، فإلى اليوم لا يزال المجتمع النفسي يتعاطى مع الموضوع بكثير من الخوف والكتمان، حيث يصور لنا المسلسل تعاطي المجتمع مع المريض النفسي من خلال العودة لطفولة "أدهم" الذي كان يعاني مرض الاضطراب السلوكي مما دفعه في طفولته إلى تعذيب الحيوانات الأليفة الصغيرة، إلا أن والدته ترفض الاعتراف بمرض ابنها وتعيش حالة نكر لها، مما يؤدي إلى تطور تلك الحالة لديه ليصبح مغتصبا ومتحرشا عندما يكبر، دون أن تتحرك لردعه. ورغم جودة الطرح، إلا أن خيار اللجوء للمرض النفسي لا يبدو موفقاً، فهو يعطي "أدهم" بعض المبررات، التي من شأنها أن تولد نوعاً من التعاطف، الذي كان من الأفضل تجنب إثارته؛ فالواقع يقول أن عددا كبيرا من المتحرشين والمغتصبين هم ليسوا مرضى نفسيين، وأنهم يرتكبون هذه الجرائم بسبب الأفكار الذكورية السائدة، التي لا يقصّر المسلسل بانتقادها.
انعكاس لقبح الواقع
فعلياً، هناك العديد من المشكلات البسيطة في المسلسل، منها بطء الإيقاع في الحلقات الثلاث الأولى، والحشو ببعض الحكايات الجانبية التي لا تبدو ذات صلة بالقضية، كحكاية المحامية وزوجها. لكن المسلسل يزداد جودةً مع توالي حلقاته التي تجعل التركيز ينصب في النهاية على القصة الرئيسية الجيدة؛ التي تنتهي –كما هو الحال في "الطاووس"- في قاعة المحكمة، لكن الفارق أن النهاية هذه المرة تعكس الواقع بقبحه بدلاً من قيام الدراما بتلميع صورة القضاء؛ إذ إن المحكمة ستلتزم بموقفها حتى النهاية بالوقوف ضد الضحايا من النساء، وستصدر حكماً بإعدام زوجة "أدهم" التي قتلته دون النظر بالأسباب المخففة، ودون أن تأخذ بعين الاعتبار الأثر السلبي الذي أحدثه القضاء في هذه القضية، والذي كان من الممكن أن يضع حداً للمأساة مبكراً، لو أنه تعامل مع قضايا التحرش والاغتصاب بالجدية ذاتها.