يتوافد العديد من المؤثرين الأتراك، المعروفين باسم "اليوتيوبرز"، إلى العاصمة السورية دمشق في ظاهرة تجاوزت الحدود الجغرافية، حيث يحمل هؤلاء المؤثرون كاميراتهم وأدوات التصوير، بما في ذلك الميكروفونات والبطاريات، بهدف "توثيق" الحياة الليلية في سوريا وإظهار البلاد التي تعاني من الدمار الذي خلفه النظام السوري على مدار 12 عاماً، على أنها آمنة ومزدهرة صباحاً وحيوية ونابضة بالحركة ليلاً.
ويعمل المؤثرون الأتراك عبر هذه المعدات، التي يمكن أن يفقد حاملها حياته على يد قوات النظام فيما لو كان سورياً، على إظهار دمشق خصوصاً، وسوريا عموماً، بأنها لا تعاني من مشكلات أمنية أو اقتصادية عبر تصوير الحياة الليلية فيها، كما لو أن الحرب التي استمرت 12 عاماً كانت تدور رحاها ضمن حدود هذه الملاهي.
وصنفت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية قبل أيام العاصمة دمشق، كأسوأ مدينة يمكن العيش فيها في العالم للعام العاشر على التوالي، أما العاصمة الأوكرانية كييف فكانت ضمن أسوأ 10 مدن ملاءمة للعيش في العالم.
خرج لاعب كرة السلة التركي كمال جان بولات،الذي يلعب في نادي الوحدة السوري ويعيش في العاصمة دمشق، في عدة فيديوهات تروج إلى فكرة عودة الحياة الطبيعية إلى شوارع المدينة، وسافر إلى مدينة حماة السورية، وسجل فيديو مع أحد السوريين الذين كانوا يعيشون في مدينة إسطنبول التركية، والعائد مؤخراً إلى مناطق سيطرة النظام.
وبدأ ظهور لاعب كرة السلة "جان بولات" الذي يحترف في نادي الوحدة السوري، عبر حساب أنشأه على الإنستغرام تحت عنوان "suriyedebirturkk" ويعني بالعربية "تركي في سوريا" ينشر فيه مقابلات مع سوريين يعيشون في الخارج وعادوا إلى سوريا أو جاؤوا لزيارتها.
ويعمل "جان بولات" عبر هذه الصفحة بإجراء مقابلات مع سوريين كانوا يعيشون في تركيا وعادوا إلى مناطق النظام، إذ يظهر أحد الفيديوهات مقابلة مع سوري عاد إلى سوريا، يسأله "جان بولات" عن حبه لرئيس النظام السوري بشار الأسد، حيث يجيبه السوري بلغة تركية ضعيفة قائلاً "إيفيت" وتعني "نعم" بالعربية.
إيلاي أكسوي تنشر شباكها في دمشق
تزامن إنشاء هذا الحساب مع مقابلة أجراها اللاعب "جان بولات" مع العضوة السابقة في حزب الجيد التركي (İYİ Parti)، والمناهضة للاجئين السوريين، إيلاي إكسوري، قبل أن تنتقل إلى حزب الديمقراطية التركي (DP) الذي يعارض أيضاً وجود اللاجئين السوريين في تركيا.
وتحاول "أكسوي" إنشاء شبكة ترويجية للنظام السوري خلال السنوات الماضية، وذلك بهدف تحريض الشارع التركي على اللاجئين السوريين في تركيا، والذي يمكن أن يخلق ضغطاً على السوريين من جهة، والحكومة التركية من جهة أخرى.
وزار وفد من حزب الديمقراطية برفقة "أكسوي" سفارة النظام السوري في العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك في شهر تشرين الثاني من عام 2022 الفائت، قبل شهر من انطلاق الفيديوهات المروجة للنظام في سوريا.
من يدير شبكة المؤثرين الأتراك التي تزور مناطق #الأسد؟
— تلفزيون سوريا (@syr_television) July 11, 2023
تقرير: منى الرنتيسي #لم_الشمل #تلفزيون_سوريا pic.twitter.com/O4lBYafsz5
وتصاعدت وتيرة الفيديوهات المنتشرة من داخل سوريا في الآونة الأخيرة، وذلك بمشاركة دنيز بستاني، الذي يقدم نفسه على أنه محلل سياسي تركي، إلا أنه يمتلك علاقات واسعة مع مسؤولين من النظام السوري، وعلاقات قوية أيضاً مع "أكسوي" ورشح نفسه في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة عن حزب الشعب الجمهوري.
وظهر "بستاني" إلى جانب "جان بولات" مع يوتيوبر تركي يدعى فاتح كوباران، والذي يمتلك أكثر من 130 ألف متابعة على الإنستغرام واليوتيوب، وتحظى فيديوهاته بعشرات الآلاف من المشاهدات، وهم يتجولون في النوادي الليلية داخل أحياء العاصمة دمشق القديمة، ويلتقطون الصور مع عناصر المخابرات الجوية التابعة للنظام السوري.
"لا حرب في هذه البقعة"
وأطلق "كوباران" سلسلة من مقاطع الفيديو التي بدأها قبل أسبوعين من داخل سوريا. تضمنت مقطعاً مصوراً نشره تحت عنوان "الحياة الليلية في سوريا لن تصدق!"، والذي بدأه في أحد الفنادق داخل أحياء دمشق القديمة، حيث كان "كوباران" و"جان بولات" يستهزئان بأحد العاملين السوريين في الفندق.
وأجرى "كوباران" برفقة "جان بولات" جولة في أحياء باب توما وباب شرقي، ودخلا محال بيع المشروبات الكحولية، للتأكيد على أنه لا وجود للحرب في سوريا، وإثبات ذلك عبر إيقاف الأشخاص الموجودين في الحيين المذكورين وسؤالهم "هل يوجد حرب في سوريا؟" وعادةً ما يتلقون الإجابة بكلمة "لا".
ويبعد حي باب توما وحي باب شرقي عن حي جوبر الدمشقي مسافة 3 كيلو متر، وهي مسافة يمكن قطعها بالسيارة خلال مدة أقصاها 9 دقائق، وهو الذي تعرض لدمار كبير نتيجة عمليات النظام العسكرية، قبل أن يخليه من سكانه البالغ عددهم 300 ألف نسمة بواسطة اتفاق "التسوية" مع فصائل المعارضة بالعام 2018.
في حين يبتعد الحيان المذكوران، اللذين غابت عنهما الحرب بحسب "كوباران" و"جان بولات"، مسافة 14 كيلومتراً عن مطار مزة العسكري، والذي شهد عمليات تعذيب وتصفيات واسعة شملت مئات المعتقلين المنحدرين من داريا بشكل رئيس ومن بلدات الغوطة الغربية وريف دمشق الجنوبي والغربي.
"أوكرانيا لديها ملاهٍ ليلية أيضاً!"
تعبِّر الصحفية التركية نيفشين منغو، على قناتها على يوتيوب، عن انزعاجها مما سمتهم "مجموعة من المؤثرين" الذين يشاركون مقاطع فيديو من سوريا ويصفون الحالة هناك بالجمال والاستقرار. وقد استهدفت منغو في تصريحاتها لاعب كرة السلة التركي "جان بولات" واليوتيوبر "كوبران".
وصرحت منغو قائلة: "يشارك هؤلاء المؤثرون مقاطع فيديو من سوريا ويدّعون أن كل شيء جميل في دمشق وأنه لا توجد حرب وما إلى ذلك. إن الحرب لا تعني أن كل شيء مدمر، فهناك تدمير اقتصادي يصاحبها يدمر البلدان الحقيقية. إذا ذهبت إلى أوكرانيا، ستجد الملاهي الليلية في كييف. لذا، عندما نرى مقاطع فيديو تظهر اثنين من الديسكو، ليس صحيحا أن نقول 'كل شيء على ما يرام'".
وفي رد فعله على اتهامات الصحفية نيفشين منغو، رد اللاعب "جان بولات" قائلاً: "مقارنة سوريا بهذه الطريقة مع أوكرانيا هي جهل تام. فهناك العديد من المدن الآمنة في سوريا التي ندخلها جميعاً ونقوم بتصويرها. يمكنكم مشاهدتها على يوتيوب. وعلاوة على ذلك، المشكلات الاقتصادية في سوريا ليست مشكلة تركيا. يجب على السوريين الذين يأتون كلاجئين أن يعودوا إلى بلادهم عندما تتوفر بيئة آمنة. فإذا كنتم تحملون قليلاً من الوطنية، فاتركوا هذه الألاعيب".
ملاهٍ ليلية على خطوط التماس
ذكرت وكالة (رويترز) للأنباء في تقرير نشرته في نيسان عام 2016 أن مدينة دمشق القديمة شهدت نشاطاً متزايداً في النوادي والملاهي الليلية، على الرغم من استمرار الحرب الدائرة في سوريا منذ خمس سنوات نسبة إلى وقت كتابة التقرير.
وأوضحت الوكالة أن الكثير من تلك النوادي والحانات تقع في حي باب شرقي الدمشقي، الذي يبعد مسافة كيلومترات قليلة عن خط التماس بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة المسلحة في المدن والأحياء المحيطة بالعاصمة، حيث تسمع أصوات القصف والاشتباكات بين الفينة والأخرى.
وأشارت الوكالة إلى أنه في الوقت الذي ينعم زوار النوادي بأجواء الترفيه في هذه الأماكن الحيوية، فإن غوطة دمشق، التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة، تعيش حصاراً خانقاً يتسبب في نقص المواد الغذائية والجوع، والتعرض المستمر للقصف من قبل قوات النظام السوري.
وبالمقارنة بين الأجواء في أحياء باب توما وباب شرقي في الوقت الحالي مع تلك الفترة التي كانت قبل أن يتم إخلاء الأحياء والمدن المحيطة بالعاصمة من سكانها، يمكن القول إن الحياة الليلية كانت مزدهرة بنفس القدر، إلا أن إظهار هذه الحالة في وسائل الإعلام التركية يمكن أن تخدم النظام السوري عبر زيادة الضغط على السوريين في تركيا، وذلك في محاولة لتغيير موقف الحكومة التركية في أثناء عملية التقارب الجارية.
كيف يستفيد النظام من "اليوتيوبرز" التركي؟
كشفت صحيفة "Yeni Şafak" المقربة من الحكومة التركية، عن وضع أنقرة أربعة شروط رئيسية للسير في عملية التطبيع مع النظام السوري. حيث تهدف هذه الشروط إلى تحقيق إصلاحات ديمقراطية في سوريا وتأمين العودة الآمنة والكريمة للاجئين السوريين إلى بلادهم.
وأعلن مسؤول تركي رفيع المستوى في حديثه إلى الصحيفة، أن تركيا تُصر على ضمان عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بكرامة وأمان. وتشترط توفير مذكرة خطية من النظام السوري تؤكد ضمان عودتهم بطريقة آمنة وكريمة إلى مناطقهم الأصلية التي ينحدرون منها.
وفي حين لم يصدر رد من النظام السوري حول هذه الشروط الأربعة، لكن يمكن الإشارة إلى أن توجه المؤثرين الأتراك إلى دمشق وتصويرهم سوريا على أنها آمنة لعودة اللاجئين، يمكن أن يرسل رسائل مباشرة إلى الشارع التركي بأن شرط "التعهد الخطي" لا يعد ضرورياً من أجل ضمان سلامة اللاجئين السوريين.
ويشكل وجود اللاجئين السوريين في تركيا ضغطاً كبيراً على الحكومة التركية، وذلك بالتزامن مع حالة الرفض الشعبية لوجودهم في البلاد منذ ما يقارب 12 عاماً، وهو ما دفع بأنقرة للتوجه إلى طاولة المفاوضات مع النظام السوري، بالإضافة إلى ملف قوات سوريا الديمقراطية الموجودة على الحدود السورية التركية المشتركة.
تمكّن المؤثرون الأتراك، أو ما يعرف بـ "اليوتيوبرز"، من تأثير على الرأي العام في تركيا لصالح معارضة استقبال اللاجئين السوريين، وأدى هذا التأثير إلى وقوع العديد من الحوادث، بما في ذلك ما يعرف بـ "قضية الموز" والتي أصبحت قضية رأي عام في البلاد، وربما يكون الهدف النهائي هو تصدير هذه الآراء إلى داخل الحدود السورية وعرضها على الجمهور التركي، بهدف تشديد القيود على السوريين بشكل أكبر.