لم ألتقِ بخالد خليفة مع أنه كان صديقاً لوالديّ، ولا أدّعي معرفته، كما فعل معظم السوريين على مواقع التواصل الذين نشروا صورهم معه، وكتبوا عن لقاءاتهم الاستثنائية به، ونعوه بكلّ الحبّ الذي يختزنونه في قلوبهم.
لكن هل حقّا كلّ هؤلاء كانوا يعرفون الروائي خالد خليفة؟
أقلقني السؤال، فرحت أقرأ كلّ ما تقع عليه عيناي في الفيس بوك وتوتير وباقي المنصات، أقرأ وأراقب، وأفكّر. على الأقل هناك نسبة كبيرة ممن نشروا صورهم الشخصية مع خالد خليفة لا يعرفونه، وذلك باعترافهم أنّهم التقوا به ولكن لم يقرأوا أعماله. كان صديقا لهم ولم يقرأوا أعماله! فإذا سلّمنا أنّ معرفة الروائي لا تكون بلقائه كما نلتقي بنجوم السينما وإنما بقراءة أعماله، فكلّ هؤلاء للأسف لا يعرفون خالد خليفة.
أعترف أنا أيضًا أنني لم أقرأ لخالد خليفة. قرأت عنه وتابعت ما كتب عنه وعن لقاءاته في التلفزيون خاصة في برنامج المنعطف بعد رحيله. قررت بعد أن قرأت ما كتبه عن ملابسات روايته "الموت عمل شاق" وأنّ الفكرة خطرت له حين كان في غرفة العناية المشددة في المستشفى، وكان الأسد يقصف القابون، وتخيّل الموت القريب منه وحتّى تخيّل ماذا سيفعلون بجثته إن مات في هذه اللحظة؟
خرج خالد خليفة من المستشفى مسرعًا ليكتب روايته الخالدة التي بحثت عنها لأقرأها خلال يوم واحد وأنا ألهث لأعرف الروائي الذي سمعت به وعرفته من كتابات الآخرين عنه بعد موته.
الموت عمل شاق
تحكي الرواية رحلة ثلاثة إخوة مع جثة والدهم الذي توفي في دمشق وأوصى أبناءه أن يدفنوه في قريته "العنابية" الواقعة في الشمال السوري التابع لمدينة حلب.
تضعنا الرواية مباشرة في أجواء سوريا المنكوبة بحرب أنهكتها خلال ستة أعوام. يقول خالد خليفة في روايته واصفًا جنازة الأب: "إنّ مرور جنازة كان يثير تعاطف الجميع أيام السلم، السيّارات تفسح الطريق، المارة يتوقفون وفي عيونهم تعاطف حقيقي، لكنّ في الحرب مرور جنازة حدث عادي لا يثير أي شيء سوى حسد الأحياء الذين تحوّلت حياتهم إلى انتظار مؤلم للموت".
ليرينا بكل أسى أن أسوأ ما في هذه الحرب التي تطحن البلاد تحوّل الموت إلى حدث عادي، بل مشتهى في بعض الأحيان. والشقاء كل الشقاء في أن يموت إنسان في أرض بعيدة وينقله أبناؤه إلى قريته ومن هنا اكتسبت الرواية اسمها.
الشخصيات
تتميّز الرواية التي كتبت في زمن الثورة، وأعطت إيحاء أنها رواية عن الثورة السورية بتركيزها على المشكلات الشخصية للأبناء الثلاثة الذين يرافقون جثة أبيهم إلى قريتهم لدفنه هناك حسب وصيته.
مع العلم أنّ هؤلاء مروا على حواجز كثيرة، وتعرضوا لمواقف كان من الممكن استغلالها للحديث عن الوضع السياسي والعسكري المقلق في البلاد. وكأن خالد خليفة في روايته يقول للقارئ: "أنت تعرف كلّ شيء والعارف لا يعرّف". وهذا ما يدعوني للظنّ أنّ خالد خليفة لم يفكّر بقارئ المستقبل الذي سيعتمد على المروي الذي يكتبه روائيونا في هذا الزمن ليصبح التاريخ الذي يستندون إلى حقائقه. وفي اعتقادي أن التوجه إلى هؤلاء كان أجدى وأنسب. وحتّى القارئ الذي عايش الحدث من بعيد في البلاد العربية الأخرى أو في العالم - على اعتبار أن خالد خليفة مقروء عالميا لكثرة ما ترجم من أعماله - يحتاج إلى الأخذ بيده ليعرف الحقيقة.
كقارئة كنت أتساءل عن كثير من التفاصيل التي لم تذكرها الرواية والتي تجاهلها الروائي ربّما عن قصد لاعتماده على ذكاء القارئ وإلمامه بالأحداث، أو لحثه على البحث والتنقيب عن المعلومات التي يحتاجها. فقد يكون الكاتب من التيار الذي يفضّل أن يشير إلى القارئ ليلحق به ويترك له مهمة البحث. ما يمنح الرواية طابع الانهمام بالأثر المدمر للحرب على الحياة، وبالتالي تُشكل موقفاً فكرياً واضحاً يقوم على رفضها تحت أي ذريعة ولأي سبب. وهي في الوقت ذاته دعوة واضحة لتقديس الحياة ومنحها ما تستحق من ظروف معيشية أفضل.
كوميديا سوداء
تحفل الرواية بمواقف وأجواء سوداوية متفردة وغريبة وخاصة في الحوار، فعلى أحد الحواجز يقف الأبناء في حيرة من أمرهم أمام الأمر الذي صدر باعتقال الجثة! والحجة لدى عناصر الحاجز أنّ السجلات الحكومية لديهم تقول إن المتوفى ما زال على قيد الحياة!
خط الروي
كتبت الرواية على لسان راو عليم وسارت على خطين أحدهما في الزمن الحالي وهو رحلة الجثة من الجنوب إلى الشمال السوري حيث تقع قرية "الجثة". والخط الآخر هو استعادة الشخصيات لأحداث ماضية من حياتهم.
اقتصار الرواية على ثلاث شخصيات هم أبناء المتوفى "رجلان وامرأة" والجثة، جعل الأحداث تمضي بسلاسة وسهولة تمكن القارئ من متابعة الرواية وقراءتها في جلسة واحدة بالإضافة إلى كونها رواية قصيرة تقع في مئة وثلاث وخمسين صفحة.
يقول خالد خليفة: "في الحرب يكفيك أشياء صغيرة للأمل، تعاطف عسكري على حاجز، حاجزٌ غير مزدحم، سقوط قذيفة على بعد مئات الأمتار منك على سيارة كانت تزاحمك على أخذ دورك. حياة جديدة منحتك إياها الصدفة، لو لم تزاحمك هذه السيارة لسقطت القذيفة عليك. هكذا يفكّر البشر الذين يعيشون تحت سقف الأمنيات الواطئ في الحرب".