وكأن ذاكرة هؤلاء قصيرة جداً. أولئك الذين يجزمون أنّ ما تعيشه سوريا اليوم هو نتيجة للحراك الشعبي، الذي حرمها الأمن والأمان، ونقلها من آفة الاستبداد إلى آفة التطرف والإجرام. وما أعجزهم عن العودة إلى تتبع مسار الأحداث، بل من العودة إلى السياسة التي كان يتبعها النظام الحاكم، والتي كانت مؤذنة بوقوع الخراب في أي وقت. بينما يفوتهم أنّ الشعوب تحتقن على المدى الطويل، ولكنها تنفجر بعد ذلك، وللأسف، يكون انفجارها دون حسابات. والسوريون، بدورهم، لم يتمكنوا من احتمال التفرج على مأساتهم، في حين أن الوعي لا يعمل بشكل منظم، بل يعمل بطريقة الانفلاتات التي لا تقيم وزناً للعواقب، لا لشيء، إلا لأنه يستحضر في لا وعيه الوعود التي أخلفت، والأكاذيب التي مررت، والمظالم التي وقعت، فيصبح مقتنعاً أنّ العقل لا مكان له في اكتساب الحقوق، بل المكان فقط للحركة التي لا يفكر الضمير الجمعي كثيراً في مآلاتها بداية الأمر. هم السوريون المستعبَدون الذين سلّموا أخيراً بما قاله أفلاطون "المَلِك الحق ليس الذي يملك العبيد بل الذي يدير شؤون الأحرار"، فكانت انتفاضتهم انفجاراً هائلاً غذّته دمويةً وحشيةُ "الغول الحاكم"، الذي أوصل البلاد إلى حافة الهاوية. وبالنظر إلى المشهد السوري بحيادية تامة نجد أن شعباً أعزل خرج ليسقط نظاماً ديكتاتورياً طائفياً عسكرياً، وكانت مطالبه تندرج تحت لواء "الحياة المدنية"، قبل أن تنهض غوغائيات من أنواع متعددة، دينية وعشائرية واجتماعية وضعت هياجها العام محل القانون، فعرقلت مسار التحول الديمقراطي في سوريا. سنكون واقعيين على أية حال ونبتعد عن تبرئة النماذج السوداء التي وجدت في الثورة السورية بؤرةً سامة لتفعيل فكرها القائم على التكفير والتفجير، لكن سنجزم في الوقت ذاته أنّ خراب البلاد يرتد في أسبابه إلى سلطة الانقلاب الدموي التي كلّست الحياة السياسية في سوريا، وكممت الأفواه، وأممت حتى الأحلام، كما تتحمل المعارضة السياسية، بكل أصنافها، جزءاً من المسؤولية لفشلها في تقديم مشروع سياسي وطني يساهم في حلحلة الأمور، وتحريك الماء الراكد.
بالنظر إلى المشهد السوري بحيادية تامة نجد أن شعباً أعزل خرج ليسقط نظاماً ديكتاتورياً طائفياً عسكرياً، وكانت مطالبه تندرج تحت لواء "الحياة المدنية"، قبل أن تنهض غوغائيات من أنواع متعددة
واليوم من الطبيعي أن تتحول (مملكة الصمت) السورية إلى ما يشبه (بلاد العجائب). خذ مثالاً بسيطاً.. بينما تشعر بالرهبة وأنت تقرأ خبراً يفيد بأن عدداً من الناشطين الألمان أطلقوا على مواقع التواصل الاجتماعي دعوة لتنظيم عرض بالدراجات النارية أمام منزل صبي مصاب بالسرطان. وفي الوقت الذي توقعت فيه أسرة الطفل مشاركة (20-30) شخصاً في العرض المرتقب، فوجئوا بحضور ما يقرب من (15) ألف شخص تبرعوا جميعاً من أجل إسعاد المريض المولع بالدراجات النارية. يأخذك هذا الخبر المدغدغ للمشاعر والدموع إلى الضفة الأخرى من العالم، إلى بلاد فيها أطفالٌ يُعتقلون ويُعذبون حتى الموت. ما يؤكد هذا، أنه وبعد شهادته التي أدلى بها أمام "محكمة جرائم الحرب في سوريا" بمدينة كوبلنز غرب ألمانيا، لمحاكمة ضابط المخابرات السابق "أنور رسلان"، المُدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حضر الشاهد الملك "حفّار القبور" أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، بلباس أسود من رأسه حتى أخمص قدميه، ونظارات أخفت عينيه، ليروي الفظائع التي شاهدها خلال سنوات الحرب التي قضاها في سوريا. حفّار القبور هذا، (اسم مستعار)، الذي فرّ من سوريا مطلع 2018، وبعد سنوات في نبش التراب، ودفن الجثث، أكد أن المقابر الجماعية التي كانت تستقبل الجثث من سجن صيدنايا لا تزال قيد الحفر، وهي مليئة بالضحايا، ولعلّ أكثر ما قاله فظاعة إنّ الأسوأ لم يأتِ بعد. يؤكد هذه الشهادة الضابط الشهير باسم "قيصر"، الذي انشقّ عن النظام عام 2013، حاملاً معه (55) ألف صورة تظهر التعذيب والانتهاكات في السجون السورية. يوثّق صور جثثهم، قبل أن تأتي شاحنات مبرّدة لنقلهم إلى حفرة عملاقة، حيث كان يوجد "حفّار القبور"، فتفرّغهم عشوائياً. الصادم، حقيقة، أنّ من ضمن تلك الجثث (عشرات الأطفال) الذين قضوا تحت التعذيب، بحسب ما نقلت وسائل إعلام أميركية عن "الحفّار" الذي شهد على دفن أكثر من 6000 جثة.
بطبيعة الحال الاعتقال والتعذيب والقتل ليست السمات الأساسية لحكم النظام السوري، بينما يزيد الطين بلّة الفسادُ الذي لا ينفكّ يزداد طراوة مع تعاظم سطوة الخراب. بيد أن الفساد في سوريا عندما ترسّخ، عبر عقود، عمل على حماية نفسه، وذلك بإبقاء كل الهياكل التي أنتجته على حالها، فدعم "أبدية الأسد" التي تشكلت في ظله، ليستفيد هذا الأخير من حليف جديد، فلا تغيير في القوانين، ولا تعديل في اللوائح، ولا تطوير في السياسات. ولا يخفى على أحد أنّ صور مكافحة الفساد خلال خمسة عقود كانت قرارات "فوقية" أشبه بهجمات إنفلونزا طارئة، تشتد كلما اشتد مرض الكرسي، وتفاقمت الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد. في الماضي من كان يملك أنفاً ذا حساسية خاصة لا بدّ أن تزكمه روائح مستنقع الفساد النتنة وفضائحه التي تمتد كأذرع الأخطبوط إلى أماكن قد لا تخطر على بال أحد، ليغدو اليوم الصورة الأكثر وضوحاً وبشاعة لانهيار البلاد.
ولعل أدلّ مثال على هذا، أنه وبينما تمرّ سوريا بما يشبه "سكتة اقتصادية"، انشغل السوريون مؤخراً، بافتتاح مستشارة رئيس النظام السوري، لونا الشبل، مطعماً فاخراً وسط العاصمة دمشق. وقد أثارت مقاطع فيديو انتشرت لحفل الافتتاح انتقادات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط استهجان لأسعار الوجبات الخيالية، حيث بلغت أقل واحدة 100 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل راتب موظف تقريباً. كما انتقدت التعليقات ارتباط اسم الشبل بالمطعم، التي لطالما وُصفت بـ"بطلة الصمود" كونها طالبت السوريين بالصبر إزاء أصعب الظروف الاقتصادية والمعيشية، لتطلّ اليوم بافتتاح مطعم فاخر بلغت كلفته ملايين الدولارات، ليس بإمكان أغلبهم ارتياده. في حين حذّرت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الإغاثية من أنّ السوريين يواجهون أزمة جوع لم يسبق لها مثيل، حيث يفتقر أكثر من 9.3 ملايين شخص لما يكفي من الغذاء.. وعليه ليس جديداً القول إنّ هذه البلاد المحكومة بالطغيان المتعدد الوجوه منذ زمن طويل، لا تتيح لمن يعيشون فيها وفرة كوفرة القهر، إنه رفيق السوري منذ صرخته الأولى وحتى تنهيدته الأخيرة. ما يجعلنا نسلّم بأن المواجهة الكبرى (لأيّ سوري) ليست فقط في الزمن الراكد الثقيل الممتد بلا أيّ أفق، وليست في انعدام شروط الحدّ الأدنى من الحياة، إنها أولاً، وقبل كلّ شيء، مواجهة يومية مع مظاهر "العجب العجاب" القاهرة. هل يمكنك أن تتخيل العيش لزمن مفتوح بلا نهاية، وأنت كلّ صباح تخرج من كوابيسك الليلية لتواجه احتمال موتك في أي لحظة؟. أنت السوري المباح، العاجز، المهدور الدم، المسلوب الحقوق، الخائن، الكافر، الجاحد، وهم المختارون لحراسة "المقدّس" المتعالي، الفائق القوة والجبروت، القائد الخالد الأبدي. أنت السوري، أشبه بقصاصة مجلة فكاهية وصلت مصادفة إلى الجحيم السوري، عندما لم يتبقَّ لك شيء على أرض العجائب والفظائع، يستحق أن تقاتل من أجله، لم تنفكّ تعيش، في حياتك المعلقة سلفاً على مقصلة العدم، أسوأ حالات الموت.